قصر “البيكاديللي”… صرح مسرحي بمواصفات عالمية (1/2)

زياد سامي عيتاني

قصر “البيكاديللي” في شارع الحمراء غرب بيروت، ليس مجرد مسرح وصالة للعروض الفنيّة والسينمائيّة فحسب، بل هو في الواقع أقرب ما يكون الى تحفة فنية للأخوين البيروتيين خالد وهشام عيتاني، والفلسطيني محمود ماميش، الذين أسسوا شركة رائدة في عالم “السينمائيات”، وكان لهم فضل كبير في إزدهار شارع الحمراء وانتعاشه، بعدما أسّسوا طوال عقد الستينيات، معظم مسارحه وصالاته، بحيث بدأ المسرح كشركة مساهمة لبنانية برأسمال قدره مليونان وخمسماية ألف ليرة.

فكما “برودواي” في نيويورك و”الأولمبيا” في باريس، إرتفع قصر “البيكاديللي” صرحاً ثقافياً مخصّصاً للعروض المسرحية والأوبرالية بمواصفات فنية وتقنية تضاهي المسارح العالمية، وذلك في شارع الحمراء في بيروت، عصب المدينة وقلبها النابض، حيث شكّل المسرح بموقعه اليوتوبي، تناغماً مثالياً مع الفكرة “اليوتوبية” في جعل هذا الشارع مكاناً ثقافياً مفتوحاً يعكس روح بيروت الحرة وطابعها “الكوزموبوليتي”.

ومسرح “البيكاديللي” كان قبلة كلّ من يود تنظيم حدث ثقافي في بيروت، فقد غلب عليه طابع الفخامة والعصرنة في آن، واستوعب الأعمال الكلاسيكية كما الأعمال الحديثة، فأضحى نقطة محورية تستقطب أهل الثقافة والفن ومتذوقيهما من أنحاء لبنان والخارج، وتوهّجت أنواره ليس على منطقة الحمراء فحسب حيث بني، بل في أنحاء العاصمة وفي القلوب، لذا كان أيّ عمل يُقدَّم على خشبته يُحقق نجاحاً باهراً.

ومن المؤكّد أنّ قصر “البيكاديللي” ذلك الصرح الثقافي التاريخي أدى دوراً أساسياً في تنشيط الحياة الثقافية في شارع الحمراء وإستطراداً بيروت (عاصمة الثقافة العربية)، وفي جعلها قبلة للوافدين من جميع أنحاء لبنان، وسائر البلدان العربية، إذ أن هذاالمسرح – القصر شهد مرحلة ذهبية لم ولن يسبقه أيّ صرح ثقافي لبناني عليه، خصوصاً وأنه صُمّم وفق شروط هندسية وفنية تليق بالأعمال الضخمة آنذاك، ليعكس دور بيروت الفني والثقافي، الذي جذب إليها كبار المثقفين والفنانين العرب والعالميين.

إرتبط اسم قصر “البيكاديللي” بالفنانة الكبيرة فيروز والأخوين رحباني، الذين قدّموا أعمالهم على خشبته. صحيح أن “البيكاديللي” استضاف عروضاً قدّمتها “اوبرا فيينواز” و”باليه البولشوي” و”الكوميدي فرانسيز” و”رويال باليه”، وداليدا وعادل إمام وشيريهان، والعروض الأولى لأشهر إنتاجات هوليوود والقاهرة، إلا أن فيروز طغت على الجميع، بدءاً من “هالة والملك”، وانتهاء بـ “بترا” عام 1978.

ولطالما إرتبط شارع الحمراء، حيث يقع المسرح، بهذا الصرح المميّز، فكان الناس يرددون اسمه للاشارة الى مكان ما في الحمراء، فصار بمثابة بوصلة معروفة من أهل المنطقة الذين يقولون مثلاً: نزلة “البيكاديللي” أو باتجاه “البيكاديللي” أو الشارع الموازي لـ “البيكاديللي”، مما أضفى على هذا الشارع النابض بالحركة رونقاً وشهرة وذاع صيته كمَعلَمٍ حضاري.

وبفضل عراقته والأعمال النوعية التي كانت تعرض على خشبته، تمكّن قصر “البيكاديللي” من أن يبقى همزة وصل وحيدة بين البيروتيين أثناء الحرب، إذ كان يقصده البيروتيون من كلّ جهة للتمتّع في رحابه بمسرحية ناقدة أو ضاحكة تنسيهم معاناتهم ولو لساعات قليلة.

جدير ذكره في هذا العرض، بعيداً عن الجانب الثقافي والفني لمسرح “البيكاديللي” أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتخذ منه أكثر من مرة “ملجأ” له خلال الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982.

التصميم والتجهيز بمواصفات عالمية

حرص المؤسّسون (شركة عيتاني وماميش) على تصميم فخم وضخم لقصر “البيكاديللي”، قام به الفرنسي روجيه كاشار واللبناني وليم صيدناوي، واستلهم المهندسان الموهوبان في تصميمهما ملامح واضحة من قاعة شهيرة للأوبرا في البرتغال.

وكان هدف هذه الصالة الفريدة والمتميّزة التي اقتبس إسمها من “بيكاديلي سكوير” في لندن، أن تكون إضافة إلى ضخامة “ديكورها” وفخامته، مجهّزة بأحدث التقنيات العالمية التي تسمح بتقديم مختلف فنون العرض على تنوّعها، من أوبرا ومسرح وموسيقى وإستعراضات وسينما، لاسيما وأنّها كانت تتسع لسبعمئة وثمانين مشاهداً، يجلسون على مقاعد (فوتيات) من المخمل الأحمر.

لذلك، تمّ إختيار واحد من أحدث وأفضل المراكز التجارية في شارع الحمراء، لإنشاء المشروع الطموح، والذي عرف منذ حينه ببناية “البيكاديللي”، حيث يزيّن مداخله الرخام وواجهته الألمنيوم، وهو مجهّز بكامله بآلات التبريد والتدفئة المركزية. وكان يشمل محال تجارية ومكاتب كبيرة، إلى جانب حلبة للتزلّج على الجليد، وصالة للبولينغ ومركزاً لسائر أنواع التسلية وحديقة أطفال. أما في الطبقات الأرضية فكانت هناك “صالة شاي” و”سناك بار” مفروشين بأفخر مقاعد الجلد والخشب وتحيط بهما شمعدانات من النحاس. وفي الطبقة السابعة مطعم يشرف على المدينة كلّها، في الطبقتين الثالثة والرابعة تحت الأرض كاراج مساحته أربعة آلاف وخمسمئة متر مربّع، وعدد وافر من المصاعد الكهربائية، منها مصاعد مخصّصة لنقل البضائع.

واعتمد تصميم قصر “البيكاديللي” الممتد على مساحة ألفي متر مربع، على اللونين الأحمر والذهبي، وعلى المخمل كقماش، والكريستال كمادة، ذلك أن ثريات القصر من الكريستال، كلفة الواحدة منها مئة وأربعين ألف ليرة لبنانية، في ذلك الزمن البعيد! غير أن الثريا المركزية، في نقطة الوسط بفضاء الصالة، كانت بسعرٍ خرافي، وبهيبة تضاهي السعر أضعافاً مضاعفة، ولم يكن لها مثيل وقتها، سوى في الحرم النبوي الشريف، بحيث أحضرت من تشيكوسلوفاكيا، ورُكّبت قطعة قطعة.

واعتُبر “البيكاديللي” أول صرح فني وثقافي في شارع الحمراء، بحكم تصميمه وفق شروط هندسية وفنية تليق بالأعمال الضخمة آنذاك، ليعكس دور بيروت الفني والثقافي، الذي جذب اليها كبار المثقفين والفنانين العرب والعالميين.

شارك المقال