قصر “البيكاديللي”… صرح مسرحي بمواصفات عالمية (2/2)

زياد سامي عيتاني

قصر “البيكاديللي” في شارع الحمراء غرب بيروت، ليس مجرد مسرح وصالة للعروض الفنيّة والسينمائيّة فحسب، بل هو في الواقع أقرب ما يكون الى تحفة فنية للأخوين البيروتيين خالد وهشام عيتاني، والفلسطيني محمود ماميش، الذين أسسوا شركة رائدة في عالم “السينمائيات”، وكان لهم فضل كبير في إزدهار شارع الحمراء وانتعاشه، بعدما أسّسوا طوال عقد الستينيات، معظم مسارحه وصالاته، بحيث بدأ المسرح كشركة مساهمة لبنانية برأسمال قدره مليونان وخمسماية ألف ليرة.

إفتتاحان عالمي ولبناني للمسرح

وليكون إفتتاح قصر “البيكاديللي” على مستوى الحدث، أحضر المالكون فرقة “اوبرا فيينواز” لتقديم العرض الافتتاحي عام 1967، برعاية رئيس الجمهورية شارل حلو ممثّلاً بوزير الداخلية بيار الجميل، وبحضور الصديق التاريخي للأخوين خالد وهاشم عيتاني الرئيس صائب سلام.

وكان الحرص على أن يكون حفل الافتتاح بعروض لفرقة “اوبرا فيينواز” للموسيقى الكلاسيكية، للتأكيد على الفخامة والنوعية، وإلى حدّ ما، على العالمية بمفهمومها اللبناني.

وقبيل الافتتاح، كان محمود ماميش قد أجرى سلسلة لقاءات مع عاصي ومنصور الرحباني لاجتذاب مسرحيات فيروز إلى “البيكاديللي” حيث أبديا حماسة كبيرة للفكرة، معتبرين أن الأوان آن لكي تقدّم أعمالهما في الحمراء، سنوياً، على غرار بعلبك.

وبالفعل تمّ الافتتاح اللبناني بالتوقيع الرحباني لقصر “البيكاديللي” في كانون الثاني عام ١٩٦٧، عبر مسرحية “هالة والملك”، لتتوالى بعدها مسرحيات الأخوين الرحباني.

أبرز الأعمال الفنية

لعب “البيكاديللي” دوراً بارزاً في إنتاج فضاء مدني – ثقافي متجانس، فاحتوت أجندته عشرات الأعمال النموذجية في تاريخ الثقافة اللبنانية والعربية والعالمية.

وفضلاً عن إلتصاق اسمه بأعمال الأخوين رحباني وسفيرتنا إلى النجوم فيروز، فقد إنقاد إليه الكوميدي فرانسيز، مثلما انقادت التجارب والفرق والمؤسسات الثقافية الأخرى، “باليه البولشوي”، داليدا، ميراي ماتيو، شارل أزنافور و”رويال باليه”، إضافة إلى عرض أبرز المسرحيات العربية، إذ يصعب حصر الأعمال الضخمة والأسماء اللامعة، التي كتبت تاريخه العريق على خشبته الذهبية.

لكنّ الحدث الأبرز الذي شهده هذا المسرح كان في العام 1972 حين قدّمت النجمة العالمية داليدا أول حفلة لها في الشرق وفي لبنان تحديداً. وكشفت صحيفة “النهار” في أحد أعدادها أن داليدا خرجت مسرورة جداً من نجاح حفلتها في “البيكاديللي”، وصاحت بصوت عال على بابه “بيروت… أحبك”، وسط تصفيق حادّ من الجماهير حولها.

وعلى خشبته، شاهد اللبنانيون أهم المسرحيات المصرية وأكثرها شهرة: “مدرسة المشاغبين”، “الواد سيد الشغال”، “بادي غارد” و “الزعيم” لعادل إمام، و”شارع محمد علي” لفريد شوقي وشيريهان، كما قدّم كلّ من سمير غانم وحسين فهمي ويسرا أعمالاً مسرحية أيضاً على خشبته.

أمّا بالنسبة الى أعمال الرحابنة وفيروز، فبعد مسرحيتهم الأولى “هالة والملك”، كرت سبحة تقديم أعمالهم على هذا الصرح الضخم، وهي على التوالي: الشخص (1969)، يعيش يعيش (1970)، صح النوم (1971)، ناس من ورق (1972)، المحطة (1973)، لولو (1974)، ميس الريم (1975)، وخلال الحرب الأهلية آخر مسرحية لهما هي بترا (1978).

ومن الأعمال التي شهدها المسرح كانت مسرحية “صيف 840 ” لمنصور الرحباني، كما قدّم زياد الرحباني “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل”.

“ومشيت بطريقي” كانت آخر طرقات ملحم بركات في العمل المسرحي على هذا المسرح، وفرقة عبد الحليم كركلا أبدعت بلوحاتها الراقصة، وصوت ماجدة الرومي صدح في أرجائه من خلال عدد من الحفلات.

فيروز غنت من دون كهرباء!

ثمة حادثة حصلت في أرجاء المسرح، لم يشهدها أيّ مسرح في العالم، وذلك عندما كانت فيروز تؤدي دورها في إحدى المسرحيات، إنقطع التيار الكهربائي، فساد هرج ومرج في القاعة، أسكته عاصي بمبادرة منه، إذ راح يعزف على آلة البزق، وتصاحبه فيروز غناء بصوتها الملائكي على ضوء الشموع، بحيث إستمرت هذه الوصلة أكثر من نصف ساعة، إنتهت عند عودة التيار، فوقف الجمهور يصفق إبتهاجاً وإعجاباً بهذا المشهد الارتجالي المميّز.

حريق يسدل ستارته المتفحمة

وكان من المقرر عام 2000 أن يقدّم الكاتب والمؤلف مروان نجار عملاً مسرحياً، وعد بأن يكون بمثابة “مفاجأة”، غير أن حريقاً ملتبساً وغامضاً إندلع منتصف إحدى الليالي، أتى على معظم محتوياته!.

ومع هذا الحريق الذي حرق قلب قصر “البيكاديللي”، تماماً كما حرق قلب أيّ إنسان مفعم بحبّ الفن والثقافة، إنطفأت أضواؤه، وأسدلت ستارته المخملية الحمراء بعدما تفحّمت، وودّع الحياة الصاخبة، ليمحو صفحة مشرقة من صفحات الثقافة والفن في بيروت الحضارة والرقي.

صحيح أن النيران تمكّنت من القضاء على محتويات هذا الصرح الثقافي الذي يحاكي مرحلة ذهبية من تاريخ بيروت، بيد أنها لن تتمكن من حرق ذاكرتنا الشاهدة على ذلك الإرث الفني والثقافي المحفور على كلّ خشبة من خشبات مسرحه، الذي يخبئ كنزاً يؤرّخ لزمن الفن الراقي.

شارك المقال