“مينة” عين المريسة… تختزل تاريخ حكايات صياديها

زياد سامي عيتاني

بين “عين المريسة” وبحرها علاقة سحرية، عمرها من عمر صخورها الدهرية و”مينة” صياديها وشمسها الذهبية وبيوتها القرميدية.

علاقة لا يجيدها إلا من تنشق لطائف نسائمها ورطوبة هوائها، ولامست جسده ملوحة رزيز أمواجها، وإغتسل بماء عينها العذبة، وتزحلق بأعشابها البحرية، وتدحرج على صخورها، وأبحر في قواربها الخشبية ولعب وهو طفل في مغارتها.

على كل صخرة من صخورها حفرت حكايات بحارتها وصياديها المكافحين وقصصهم وذكرياتهم ومغامراتهم، التي لم تمحها كل العواصف العاتية ولا الأمواج الغاضبة ولا تعاقب الزمن والسنين التعبة.

بحرها المتمايل والمتماوج حيناً، والهائج الثائر أحياناً، كم يختزن من آثار الأسرار والأخبار وهموم ومخاطر الباحثين عن قوت يومهم في هذا الأزرق المتوسطي الكبير.

فهو لهم الصديق الونيس والأنيس، الذي يبادلهم المشاعر والأحاسيس، ويتفاعل مع جوارحهم بما يشبه حركة المد والجزر. وهو بالنسبة اليهم ملاذهم الذي يشعرهم بالأمان والسلام، على الرغم من تياراته الجارفة وغدره عندما يعبّر عن غضب يحتفظ بسره لنفسه.

هو بحرهم بأمواجه العاتية وسيمفونية أصواته وألوانه المتدرِّجة في زرقتها خلال إعتكاره وهدوئه وصفائه، بصيفه وخريفه وشتائه.

سر هذه العلاقة بين صيادي “عين المريسة” وبحرها كنز مدفون في قعره، لا قدرة لأحد على الاقتراب منه.

المنطقة حملت إسم مرساها:

“عين المريسة”، سميت كذلك نسبة إلى ينبوع ماء عذب كان يجري عند الشاطئ ويصب في البحر، حيثُ ترسو مراكب الصيادين المتأهبة دوماً للإبحار والغنيمة من خيرات البحر المتوسط.

على الجهة الغربية لمدينة بيروت بمحاذاة شاطئ البحر، كانت قرية صغيرة من قرى ضواحي بيروت، قبل أن تصبح واحدة من أرقى مناطقها. وهذه القرية كانت تعرف بـ “دار المرسي”. وإسمها مشتق من الميناء المتواضع الذي كانت ترسو فيه الزوارق والمراكب الصغيرة المخصصة لصيد الأسماك، ثم صار يطلق عليها إسم “عين المرسي” لوجود عين ماء عذب كانت تسقي أبناء القرية.

إذاً، إسم “عين المريسة” كما يؤكد المؤرخ الدكتور عصام شبارو يرتبط بكلمتين “عين” و”مرسى”. فخليج “عين المريسة” الذي ردمته أشغال وصلة كورنيش البحر في الفترة بين 1973 و1978، كان لقرون خلت “المرسى” الطبيعي لقوارب البحارة وصيادي الأسماك، وكان من الطبيعي لوقوع العين والمرسى في موقع واحد، أن يطلق “عين المرسى” الذي حُرّف بمرور الزمن، فأصبح “عين المريسة” ودخلت “الأسطورة” في تسمية هذه المنطقة، بعدما أطلقت بلدية بيروت اسم “دار المريسة” على الشارع الذي يمتد من “العين” الى الجامع وهو الشارع الذي يمثل الواجهة البحرية للمنطقة، على أن كلمة “دار” كانت ولا تزال تطلق على كثير من البيوت القرميدية المحاطة بالبساتين الواسعة في هذه المنطقة قبل زوالها.

وقد إشتهر أبناء تلك القرية بشجاعتهم وبسالتهم في الدفاع والذود عن قريتهم من محاولات إعتداء القراصنة عليها، الذين كانوا يستخدمون ميناءها للنهب والسلب، وكان آخرهم القراصنة اليونان في العام 1827.

ومع تمدد بيروت خارج سورها وضم الضواحي إليها، صارت قرية “عين المرسي” تعرف بمحلة “عين المريسة”، إستسهالاً للفظ، وصارت تشهد إزدياداً في أعداد القاطنين فيها من العائلات.

قرية الصيادين:

لم تكن “عين المريسة” قبل العام ١٨٤٠ سوى إحدى ضواحي بيروت التاريخية، كونها كانت تقع ظاهر بيروت، (أي خارج سورها)، أسوة بباقي المناطق التي كانت تحيط بالمدينة.

وكانت المنطقة عبارة عن أراض وبساتين وجلول زراعية، بحيث إهتم الأهالي والقاطنون فيها بزراعة أراضيها بمختلف الخضار والفواكه الموسمية، وعمدوا إلى حفر الآبار وسحب مياهها وتجميعها في برك شيدت الى جانبها لري مزروعاتهم.

وعند الحصاد، كانوا يبيعون محصولهم في باطن بيروت، التي كانوا يسلكونها عبر الأزقة الضيقة والوعرة، إما سيراً على الأقدام، أو بواسطة البغال والحمير.

لذلك، لم تقطن “عين المريسة” في تلك الفترة سوى العائلات التي عملت في الزراعة، فكانت قرية زراعية بإمتياز.

وفي وقت لاحق، وبحكم الموقع البحري لمنطقة “عين المريسة” المقرون بالخليج الطبيعي المحاط بصخورها الممتدة داخل مياه البحر بأشكال متعرجة وغير منتظمة، بحيث يمثل الخليج أقدم المعالم التاريخية لهذه المنطقة البحرية الشاطئية، صارت “عين المريسة” مقصداً للصيادين لوجود ذلك الخليج الذي تحول مع مرور الزمن إلى مرسى للصيادين، فاستحقت المحلة أن يطلق عليها “قرية الصيادين”.

وقد شكل هذا الخليج حالة نادرة ولافتة، تتمثل في ثلاثة موانئ طبيعية خصص ميناءان منها لقوارب الصيادين، هما: الميناء الرئيسي (كان قائماً مكان مسبح “الجمل” و”النورماندي”، والذي ردم سنة ١٩٧٣ مع بدء عملية تشييد وصلة الكورنيش) وميناء “الفاخورة” (عرف بهذا الاسم لوقوعه بجانب “الفاخورة” أي مصنع صغير لصناعة الفخار)، والتي أزيلت سنة ١٩٣٥ عند تشييد مبنى آل فاخوري.

وتشكل من هذين الميناءين ميناء “عين المريسة”، وهو أول الموانئ البيروتية التي تحولت مركزاً للصيادين ومرسى لمراكبهم، مع الإشارة في هذا المجال إلى أن ميناء “الفاخورة”هو أول ميناء مسجل في بيروت.

مسمكة “عين المريسة”:

إذا إقترنت “عين المريسة” بميناء الصيادين، فإن الميناء إرتبط إرتباطاً وثيقاً بمسمكة “عين المريسة” أو مسمكة “أبو إبراهيم سلطاني”، كونه كان يشتري من الصيادين كل ما يصطادونه من أسماك، ليبيعه بدوره للزبائن الذين كانوا يقصدون مسمكته من مختلف المناطق البيروتية، كما أن العديد من المطاعم كانوا من زبائنه الدائمين، لثقتهم بأن أسماكه طازجة غير مثلجة أو مستوردة.

ولكن قلة من كانت تدرك أنه قبل إنشاء المسمكة، كان أهالي المحلة يشترون السمك مباشرة من الصيادين، إلا أنه ومع تطور صيده وازدهاره في المنطقة، أسس القبضاي مصطفى علوان مسمكة صغيرة في المكان نفسه الذي أنشئ فيه لاحقاً ملهى “الفونتانا”.

أما مسمكة “عين المريسة” فقد أنشئت بداية فوق مسبح “الجمل”، حيث كان يقام فيها مزاد علني لبيع السمك بإشراف محمد سلطاني وعارف شقير، لينتقلا بعدها إلى المسمكة الأشهر التي هي عبارة عن مصطبة صغيرة بمحاذاة الرصيف عند مدخل ميناء “الفاخورة”، التي سميت مسمكة “عين المريسة”، لينفرد في وقت لاحق محمد سلطاني “أبو إبراهيم” بملكيتها منفرداً، حتى صارت تعرف بإسمه.

وكان أبو إبراهيم يشتري السمك من الصيادين ومن سوق السمك، ويفرد على مصطبته الأسماك بشكل يجذب الناظر، ويضع تحتها الثلج المكسر للحفاظ على جودتها، وكان بين الحين والآخر يرش السمك بماء البحر بواسطة “طاسة” موضوعة في “سطل” على يمين المسمكة، أما على شمالها، فكان يضع الميزان الحديدي ذا الكفتين النحاسيتين وإلى جانبه “العيارات” من مختلف الأوزان، وأكياس النايلون الشفاف.

وكان معروفاً عن المرحوم أبو إبراهيم سلطاني على الرغم من طيبة قلبه، طبعه الحاد وعصبيته، بحيث أن “روحه في راس مناخيره”، لاسيما وأنه في شبابه كان من قبضايات المحلة، والمسدس لا يفارق وسطه، لذلك لم يكن يتحمل الزبائن ولا “الصيادة” الذين يحاولون “مفاصلته” على سعر شراء أو بيع السمك، فيعلو صراخه وتظهر إنفعالاته العصبية.

كذلك، كان يعرف عنه أنه وفور الإنتهاء من بيع “الرزق”، يحمل “غلته” ويتوجه إلى المصرف لاستبدالها بأوراق نقدية جديدة، كان يصر على التعامل بها، لأسباب بقي محتفظاً بأسرارها لنفسه.

بقي الريس أبو إبراهيم سلطاني متسيداً مصطبته حتى العام ١٩٧٤ إلى أن تقدم في السن ونال منه المرض، فآلت إلى الريس نجيب الديك الذي عمد إلى توسعتها وتحديثها وإدخال البرادات إليها.

كل هذه العوامل، جعلت من “عين المريسة” بجغرافيتها وسكانها، أشبه بريف بحري على طرف المدينة، وخير شاهد على ذلك البيوت والعمائر ذات الواجهات البحرية، وذلك للفوز بمنظر البحر، بإعتباره فسحة إستجمامية بإمتياز.

شارك المقال