باحة “اللعازارية”… سوق للكتب المدرسية المستعملة

زياد سامي عيتاني

بداية العام الدراسي، الذي يكون عادة خلال شهر تشرين الأول من كل سنة، كان يشكل على الدوام، ولا يزال، عبئاً كبيراً، لا بل هاجس مقلق لأهالي الطلاب، الذين كانوا في الماضي يحاولون قبل أشهر إدخار ما أمكن، حتى يتمكنوا من الإيفاء بما هو متوجب عليهم من مستحقات، نظراً الى الكلفة الباهظة التي يتحملونها لتغطية نفقات تعليم أولادهم (التي تفوق في كثير من الأحيان إمكاناتهم)، والتي تشمل الأقساط المدرسية، الكتب والقرطاسية، فضلاً عن الزي الخاص بكل مدرسة، إضافة إلى أجرة إنتقال الطلاب من منازلهم إلى مدارسهم، ذهاباً وإياباً.

ولأن اللبناني مشهود له بالقدرة الفائقة على التغلب على ظروفه وأوضاعه مهما بلغت شدتها، فقد نشأ منذ خمسينيات القرن الماضي، ما يمكن تسميته “معرض الكتب المدرسية”، الذي كان ينظم بصورة مرتجلة ولبضعة أيام في باحة وأرصفة مبنى “اللعازارية” التجاري الشهير الكائن في شارع الأمير بشير، وسط بيروت، الممتد بين ساحتي “عسور” و”البرج”، مقابل “التياترو الكبير”.

وهذا المعرض إذا صح التعبير، عبارة عن سوق موازية (مؤقتة) للكتب المستعملة بأسعار زهيدة، يفرشها الباعة على الرصيف، حيث كان يحضر التلامذة إلى هذه السوق، قبيل بدء العام الدراسي، إما للشراء، أو لمقايضة كتبهم الدراسية عن السنة الفائتة بكتب العام المقبل، فيتحول المكان في الوقت نفسه من كل سنة إلى ساحة لبيع الكتب المستعملة وشرائها وتبادلها، في مشهدية على الرغم من بساطتها وطابعها الشعبي البسيط، تعبّر عن حالة من التكافل والتضافر، بين الفئات الإجتماعية لمعاونة بعضها البعض، والتغلب على الكلفة الباهظة للتعليم، كنوع من التحدي الشريف، للتأكيد أن النجاح والتوفيق الدراسي ليسا مقتصرين وحكراً على الطبقات الميسورة.

ومع توافد الكثير من الطلاب الذين يريدون بيع كتبهم التي إنتهوا منها، ليشتروا بثمنها كتباً مستعملة للسنة الدراسية المقبلة، يصبح مبنى “اللعازارية” ومحيطه مكتظين بالرواد، بحيث يصعب الدخول والخروج إلى المجمع بسبب حجم الازدحام غير المسبوق الذي يستمر ليلاً نهاراً، بفعل رحلة التفتيش عن الكتب الخاصة للسنة الجديدة بموجب لائحة الكتب التي تطلبها المدارس، وهذا كان يشكل مصدر فرحة كبرى لأصحاب المكتبات والبسطات.

وبما أننا أتينا على ذكر المكتبات، فإن ذلك يدفعنا الى الحديث عن سبب إختيار مجمع “اللعازارية” لاقامة هذه السوق سنوياً.

السبب الأبرز هو وجود المكتبات داخل المبنى وفي الشوارع المحيطة به، كشارع المعرض وشارع سوريا، وكان أبرزها على الإطلاق مكتبة “أنطوان”، التي تخصصت ببيع كتب مناهج الدراسة بالفرنسية، تليها مكتبة “لبنان” ومكتبة “الفرح”.

ومن تلك المكتبات أيضاً: مكتبة “الحياة” لصاحبها يحيى الخليل، ومكتبة “الأندلس” لصاحبها حسين عاصي ومكتبة “العرفان” لصاحبها عارف الزين.

والمفارقة أن غالبية من كان يمتهن تجارة الكتب هي من عائلات الزين والخليل وسموري ومغنية وعاصي، وكانت تقطن وقتها منطقة الخندق الغميق، وهي في الغالب من بلدة شحور الجنوبية.

وتجدر الاشارة الى أن مجمع “اللعازارية” كان بمثابة نقطة إرتكاز تجارية، حيث كان مقراً لعشرات المكاتب والشركات على إختلاف وتعدد إختصاصها، وكان يضم أيضاً أكثر من خمس مكتبات كبيرة، منها: مكتبة “لبنان” ومكتبة “الفرح”، ومكاتب نقابة المحررين وصحيفتي “الكفاح” و”اليوم”، وقرطاسية “كامل”، ومحال “معتوق”، و”غندور”، و”حداد” ومقهى “لاسورس”، و”إستديو مصر” (لاحقاً إستديو نقولا) لصاحبه نقولا الحجار، والصراف قصابية ومطابع “اليوم” و”الحياة “و”أوهانس”.

وكان إسم “اللعازارية” نقطة إستدلال، فسيارات الأجرة كانت تنطلق من جوانبه الأربعة لتذهب في كل إتجاه. منه ينطلق السرفيس والتاكسي، وإليه يصلان. وفيه، تحت الأرض وفوقها، تنتشر الكاراجات ومكاتب سيارات الأجرة، ومنها: كاراج سعد وكاراج صيدا وكاراج السكاكيني وكاراج راشد حمزة وغيرها.

هذه السوق الشعبية الموسمية لبيع الكتب المدرسية المستعملة وتبادلها، ربما كان لها فضل كبير على تلامذة كان ذووهم عاجزين عن شراء كتب جديدة لهم، فتمكنوا بفضل شراء الكتب المستعملة أن يتابعوا دراستهم، وبالتأكيد منهم من تفوق وبرع في مجالات عديدة، من دون أن نستبعد أن هناك من وصلوا إلى مراكز ومناصب مرموقة بفضل تفوقهم وكفاءتهم وجهدهم وتغلبهم على قساوة ظروفهم، أنست أهلهم عذابات تغطية نفقات تعليمهم، فكانوا لهم مصدر فخر وإعتزاز.

شارك المقال