“الروشة”… صخرة الحب لا الانتحار

زياد سامي عيتاني

من يمرّ بمنطقة الروشة في هذه الأيام، يطلق بحسرة ومرارة لذاكرته العنان، وهو يغوص في بحر ماضيها، لينبش منه صوراً راسخة من أيام عزّها، ينتحب قلبه حزناً على ما آلت إليه جوهرة بيروت المتلألئة، بعدما كانت من أهم المعالم السياحية المطلّة على بحر بيروت، المدينة النابضة بالحياة، والحاضنة لأشهر وأرقى المطاعم والفنادق والأبنية الفخمة، التي كانت متناسقة ومنسجمة بهندستها وعمارتها، وكأنها تعانق “صخرة الحب والانتحار” الدهرية.

تلك المنطقة كانت ملاذ قاطنيها، إضافة إلى أنها كانت تعجّ بالرواد من سيّاح عرب وأجانب و”أولاد البلد”، وكبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة وأهل الفكر والأدب من عرب ولبنانيين… كلّهم مغتبطون، فرحون، منسجمون في إلفة ومحبة وهناء، كأنهم يرسمون لوحة فنية زاهية، تختصر مشهدية السعادة التي كان ينعم بها أهل المدينة وزوارها.

“الروشة” لم تعد كما كانت، ولا كما تختزنها ذاكرتنا (!) لم نعد نلمح البحر، الذي جُنَّ، بعد ردمه، وغزته الغطرسة الاسمنتية، وبعدما أزيلت كلّ المعالم السياحية التي كانت تطلّ عليه من مطاعم وفنادق. وحتى المباني التي تميّزت بجمال هندستها هدمت لمصلحة التطوير العقاري بمبانيه التجارية الشاهقة والمتوحشة (!)، حتى باتت منطقة الروشة وأيام عزّها وإزدهارها كأنها إنتحرت من على صخرتها.

من حقول زراعية إلى أرقى منطقة:

من عايش العصر الذهبي لمنطقة الروشة من اللبنانيين والعرب والأجانب بهدوء ورقي مقاهيها، وزحمة مطاعمها، وصخب ملاهيها، وفخامة الأعراس في فنادقها، لا يدرك أنّها كانت مطلع القرن العشرين عبارة عن مساحة زراعية شاسعة، فيها أنواع مختلفة من الزراعات. فحقول التوت كانت منتشرة على السهول المطلة على البحر، وأشجار “الصبير” تفصل بين الحقل والآخر، اضافة الى حقول الخس وبساتين أخرى.

وبقيت المنطقة على حالها حتى خمسينيات القرن الماضي حين بدأت عمليات البناء فيها، يوم كانت بيروت في تلك المرحلة تتحوّل إلى معلم أساس للسياحة في المنطقة. وكانت الناحية الأكثر جاذبية فيها الواجهة البحرية لبيروت، ذات “البولفارات” الواسعة على الطريقة الباريسية، فيها أشجار نخيل، تطلّ على البحر الذي تلاطم أمواجه الكتلة الصخرية على إمتداد الكورنيش البحري للمدينة.

المنطقة حملت إسم صخرتها:

صخرة “الروشة”… صخرة عنيدة متربّعة على ضفاف بحر بيروت، من الجهة الغربية، لم يملّ الموج من التشظّي على أقدامها منذ آلاف السنين، من دون أن تلين لها قناة أو منحنى، ولها هامة، حتى أُطلق عليها “حارسة بيروت”.

عمرها من عمر بيروت، فهي تعتبر إحدى أهم المعالم الطبيعية الأخاذة والرائعة الجمال في لبنان وعاصمته. صمودها الدهري، جعلها ذات رمزية دالة على بيروت، وكأنّها بصمتها، التي لم تمحها كل العواصف العاتية، فبقيت قابعة في بحرها، حتى سميت المنطقة المحيطة بها بإسمها “الروشة” (تعريب لكلمة la roche الفرنسية، التي تعني الصخرة).

وصخرة “الروشة” تعدّ واحدة من أروع معالم السياحة في بيروت، ومن أشهر المعالم الأثرية في لبنان عموماً، وهي عبارة عن صخرتين هائلتي الحجم، إحداهما أكبر من الثانية، فالكبيرة هي الصَخرة المجوفة من أسفلها، ويبلغ إرتفاعها ما يقارب 70 متراً، اما الصخرة الثانية الصغيرة فتبلغ حوالي 25 متراً، وقد تأثرت بعوامل التعرية الجوية التي تعرضت لها عبر الزمن، ما أدى إلى جعلها مُدببة الشكل.

إحتار علماء الجيولوجيا في معرفة عمرها الحقيقي وكيفية نشوئها، ويقال إنها تكونت منذ آلاف السنين نتيجة الزلازل القوية التي قضت على العديد من الجزر المأهولة في ذلك الوقت وظهرت بدلاً منها صخور عديدة منها “الروشة” وغير ذلك من الاجتهادات.

وكانت صخرة “الروشة” إحدى المحطات الأساسية لمستشرقي القرنين الثامن والتاسع عشر الذين وفدوا لاستكشاف الشرق الأوسط في ظل الحكم العثماني.

وتبرز الصخرة وتطغى بوضوح على سائر المشهد في الرسومات التي أعدّها أولئك المستكشفون الأوائل، وبين العامين 1831 و1840 أثناء حملة محمد علي باشا على بلاد الشام.

صخرة الحب لا صخرة الموت:

على الرصيف المطلّ على الصخرة يمارس المواطنون رياضة المشي والركض، ويستأجرون الدراجات الهوائية للقيام بجولة مميّزة، ويستمتعون أيضاً بتناول بعض الحلويات والمأكولات الشعبية، من الباعة المتجولين على طول الكورنيش.

على الرغم من أنه يطلق على صخرة “الروشة” ظلماً، صخرة “الانتخار والموت” (!) الا أنها في حقيقة الواقع “صخرة الحبّ”، خصوصاً في اللحظة التي ترمق شمس بيروت بنظرة المساء الأخيرة، تاركة الأحبّة “إتنين إتنين”، لتضخ الحياة في قلوبهم، وتكتب قصص حبّ لا حدود لها، حينما يتنزّه العشاق المتيمون على الكورنيش المطلّ عليها، ويجلسون على الرصيف، متأملين البحر وأحلامهم، وخطط مشاريعهم المستقبلية، على إيقاع صوت الأمواج التي تحمل لهم الأمل والتفاؤل… تماماً كما كان عليه مشهد الحبّ الذي جمع الفنّان عبد الحليم حافظ والممثلة ناديا لطفي، عند هذه الصخرة، في فيلم “أبي فوق الشجرة”، على وقع أغنية “جانا الهوى جانا… ورمانا الهوا رمانا”.

هذا ما جعل صخرة “الروشة” وواجهتها البحرية، واحدة من أبرز المعالم السياحية في بيروت، إلى أن تحوّلت مزاراً مهماً لكلّ السيّاح، خصوصاً للاستمتاع برؤيتها ومشاهدتها عن قرب وأخذ الصور التذكارية على خلفيتها، إضافة إلى قيام الزوار بجولة بحرية في القوارب التي تبحر حول الصخرة وتعبر في التجويف الموجود فيها.

شارك المقال