ملحم بركات في ذكراه: عبقري متمرد ومجدد الأغنية اللبنانية

زياد سامي عيتاني

تصادف اليوم الذكرى السادسة لرحيل الموسيقار ملحم بركات، الذي غادرنا في 28 تشرين الأول 2016، تاركاً مساحة شاسعة من الفراغ العاطفي والفني والموسيقي لا يبدو أنها قابلة لأن ترمّم بعده.

ملحم بركات شخصية فنية عبقرية وإستثنائية، مثيرة للجدل، مشهود له أنه موسيقار شقي ومتمرد وثائر على الفن والسياسة والحياة بأكملها. كذلك معروف عنه مزاجه المُحتد والمُتقلّب، لدرجة أن مواقفه غالباً ما كانت تثير الرأي العام وتستفز شرائح واسعة من فنّانين ومُستمعين عرب ولبنانيين، لكنه كان يرفض أن يُنعت بالمغرور، ويؤكد أن قلبه أبيض ودمعته سخيّة، بينما يجمع المقرّبون منه على طيبته وحنانه.

كان أبو مجد نجماً من نجوم الأغنية اللبنانية، وصاحب صوت رخامي يجمح بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد، وموسيقاراً تسكن ألحانه الجميلة في ذاكرة الملايين. جسّد الأغنية صوتاً وتمثيلاً، مكّنته من ذلك حنجرته الخارقة، ويعتبر الموال من أشهر مميزاته الموسيقيّة، إذ كان يلهب جمهوره أينما كان، حين يسمع صوته يصدح طويلاً بالغناء عن الحبيب والرحيل والهزيمة ثم النصر.

وكان لموهبته الموسيقية المتجذرة أن منحته ثقة بنفسه قلّصت من حاجته إلى الاعتماد على الوجبة الغنائية الجاهزة. وسرعان ما تحول الى جواز مرور لعبور الآخرين نحو معترك النجاح.

يكفي لنص ما، مهما كان متواضعاً، أن يقترن بألحانه الساحرة حتى يصير علامة إبداعية مسجلة.

لحّن لكثيرين، وكان حصول أحد المغنّين على لحن منه يعني دفعة مؤثرة نحو عالم الشهرة.

مطرب ضيعته وملحن كلام الصحف:

ولد الموسيقار في بلدة كفرشيما (العام 1942) في كنف عائلة بسيطة، ولكن في وسط بيئة غنيّة بالعطاء الفني. في بيت العائلة تعرّف باكراً إلى سحر العود، فوالده أنطوان بركات كان يجيد العزف على هذه الآلة، وكان الصبي الممتلئ بالموهبة، ينتظر غياب أبيه حتى يتناول العود، ويحرك أوتاره بعبث مميز، إذ ورث ملحم حب الفن والموسيقى عن والده الذي مارس الفن كهواية وتعلم منه العزف على العود، وكان يدندن وسط أصدقائه في بلدته كفرشيما حتى أُطلق علية لقب “مطرب الضيعة”. ويذكر أصدقاؤه أنه قام في إحدى المرات بتلحين بعض الكلمات من احدى الجرائد اليومية وغناها في إحدى المناسبات المدرسية، (محققاً بذلك ما كان يعلنه الموسيقار الاستثنائي سيد درويش نظرياً عن إستعداده لتلحين كلام الجرائد)! وليضع بعد ذلك نشيداً لمدرسته.

أبوه يمنعه من الموسيقى بوجود عبد الوهاب:

في مطلع شبابه طلب ملحم من والده أن يسمح له بدراسة الموسيقى، فكان جواب الأب: “هناك عبد الوهاب في الساحة وتريد أن تصبح فنانًا؟”.

ومع ذلك ترك ملحم المدرسة وكان في السادسة عشرة من عمره عام 1960، وقرر الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، فانتسب إليه، من دون علم أبيه، اذ كان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يخفيه أمام مدخل منزله، إلى أن إكتشف والده الأمر وعاد وقبل بذلك، نظراً الى إصرار إبنه وموهبته الواعدة.

الالتحاق بالرحابنة قبل إكمال دراسته الموسيقية:

درس ملحم النظريات الموسيقيّة والصولفاج والغناء الشرقي والعزف على آلة العود مدّة أربع سنوات في المعهد الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار)، وكان من بين أساتذته، سليم الحلو وزكي ناصيف وتوفيق الباشا.

وترك المعهد قبل إكمال دراسته، عندما نصحه فيلمون وهبي بأن يتوجه إلى مسرح الرحابنة، وهكذا كان. فقد تعرّف إلى إبن بلدته الفنان عصام رجي، الذي سمع عنه الكثير، وإنضم بواسطته إلى فرقة الأخوين رحباني، وعمل معهما ومع السيدة فيروز عدة سنوات قبل أن ينصرف إلى بناء شخصيّته الفنية الخاصة.

أول مشاركة له في هذا السياق كانت ضمن مسرحية “الليل والقنديل” ثمّ “بيّاع الخواتم” و”سفر برلك”، و”الشخص” و”فخر الدين”، وصولاً إلى “الربيع السابع” مع رونزا. وخلال هذه الفترة كانت له أكثر من أغنية من كلمات عاصي ومنصور الرحباني ومن ألحانه: بلغي كل مواعيدي، شو بعدو الناطر، وشباك حبيبي…

لكنّه بعد أربعة أعوام، في العام 1968 تركهما ليشقّ طريقه الفنيّة ويبني شخصيّته الموسيقيّة الطربية والتلحينيّة المتميّزة لما يمتلكه من موهبة في هذين المجالين.

مجدد الأغنية اللبنانية وناشرها:

موسيقيّاً، ينتمي بركات إلى الجيل الثاني من روّاد الأغنية اللبنانية، التي ساهم في تجديدها ونشرها، إذ أن ولادته الفنيّة جاءت في وقت غدا لبنان مرسى الحداثة في العالم العربي، ونافذته المُشرّعة على رياح العصر وآخر صيحاته التجديدية والتحديثية.

وعليه، يعتبر مجدّداً للأغنية العربية واللبنانية، وقيل عنه بأنّه “سابق عصره” إذ قدّم نماذج من الأغنية العربية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي. وأعاد الاعتبار الى الأغنية الكلاسيكية بصورة عصرية، وأخرجها من جمودها وغنائيتها التي قد تستمر لساعات.

لم يغنّ إلاّ باللهجة اللبنانية، ليس لعدم إهتمامه باللهجة المصرية أو غيرها من اللهجات العربية، بل قناعة ووفاء للذين صنعوا الأغنية اللبنانية وأوصلوها إلى كلّ الأقطار العربية والأجنبية، أمثال الرحابنة وفيلمون وهبة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ووديع الصافي وسامي الصيداوي ونقولا المنّي وغيرهم.

ملحن كبار المطربين والشعراء:

قدم الراحل ألحاناً لعدد كبير من المطربين، نذكر منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، باسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ.

كانت أولى ألحانه، “بلغي كل مواعيدي” (ثنائي بينه وبين جورجيت صايغ)، ثم ألحان مسرحية “حلوة كتير” للمطربة صباح، ومن بينها: “المجوز الله يزيدو”، و”صادفني كحيل العين”، و”ليش لهلق سهرانين”.

عندما لحّن أغنية “أبوكي مين يا صبيّة” للفنان وليد توفيق، كرّت بعدها السبحة وإنطلقت شهرته، فقدّم: “علواه يا ليلى”، “عود يا حبيب الروح”، “يا لايمة ليش الملام”، “على بابي واقف قمرين”، إلخ…

ولحّن بركات للعديد من الشعراء من بينهم منير عبد النور ونزار فرنسيس، الذي جمعته به صداقة قوية، وكان من آخر أعمالهما معاً “عدّ الأيام” و”ما في ورد بيطلب مي”.

أبرز أعماله:

ولملحم عشرات الأغاني التي تصدح في ذاكرة اللبنانيين والعرب منها: “على بابي واقف قمرين”، “تعا ننسى”، “حمامة بيضا”، “شباك حبيبي”، “شو بعدو الناطر”، “علواه يا ليلى”… نماذج لأغانٍ جعلت أبو مجد كما أحب أن يسمّي نفسه، نجم المسارح والحفلات ومطرب الملايين، بل واحداً من أهم المطربين والملحنين في العالم العربي.

في المسرح، إضافة إلى أعماله مع الأخوين رحباني، شارك في العديد من المسرحيات، فقام ببطولة “الأميرة زمرد” لروميو لحود، ووقف أمام الشحرورة صباح في “الفنون جنون” و”حلوي كتير” و”ست الكل”، كما كانت له بطولة “ومشيت بطريقي” التي شاركت فيها الراقصة الراحلة داني بسترس.

رحل الموسيقار في مثل هذا اليوم، تاركاً كنوزاً فنية تزخر بها المكتبة الموسيقية والعربية، من دون أن يحقق أمنيته الأخيرة بأن يتمكن من إكمال مقطوعة موسيقية بدأ تأليفها، وحلم بأن ترافقه من منزله الى مثواه الأخير ومدّتها نصف ساعة، وهو الوقت الذي تستغرقه المسافة بين المكانين.

شارك المقال