في ذكرى رحيل شوشو… نستحضر صرخته “آخ يا بلدنا”

زياد سامي عيتاني

حلّت أمس الذكرى الـ ٤٧ لرحيل الفنان العبقريّ والجريء حسن علاء الدين “شوشو” (٢ تشرين الثاني ١٩٧٥) الذي أبدع بشخصيّته الفنيّة الفذة وبأسلوبه الكوميدي الراقي والنقدي الساخر، في التعبير عن وجعه ووجع الناس، الذي جسّده على خشبة مسرحه بعرق الجبين، بما قدّمه من أعمال خالدة، من خلال تأديته واحدة من أكثر الشخصيات الفنية تعقيداً وأكثرها إثارة للجدل، لتتحوّل إلى شخصيّة فنيّة ذات معان حسيّة وأبعاد إنسانية تضجّ بالانفعالات والتفاعل مع واقع البلد والنّاس، والتي بلغت ذروتها في تلك الصرخة المدوّية “آخ يا بلدنا” (عنوان إحدى مسرحياته) التي أطلقها، وعبّرت إلى أقصى الحدود بجرأة وشجاعة عن وجع النّاس، وتخللتها الأغنية – الصرخة “شحادين يا بلدنا” كلمات ميشال طعمة وألحان إلياس الرحباني، وتناولت نشالين ونصابين وعطشانين ومظلومين وجوعانين وطفرانين وأراضي وجرايد وضماير ووزراء ومدراء وحُجّاب وشعراء وكُتّاب للبيع… ولا يزال اللبنانيون يردّدونها كلّ يوم، لما تختزله كلماتها من تعبير صادق عن أوجاعهم المتراكمة، وكأنّه كان سابقاً عصره وزمانه، ليتنبأ بما سوف تؤول إليه الأوضاع من انحدار مخيف ومقلق على مستقبل وطنه، بحيث تحاكي الواقع الحالي.

وفي ضوء هذه الأغنية، دعت النيابة العامة شوشو الى المثول أمامها للتحقيق في هذه الجريمة الكبيرة (!) بعد أن دهم عدد من رجال الأمن مكتبه وصادروا ١٣٥ أسطوانة وطلبوا سحب الأسطوانات من الأسواق!.

على الرغم من أنّه لم يكن منتمياً إلى أيّ حزب سياسي، ولم يكن أيديولوجياً، لكنّه كان يساري الهوى، أو “يسارياً بالفطرة”، إذ تمكن بفضل عبقريّته الاستثنائية من تحويل الكوميديا الى عمل سياسي – إجتماعي ونقدي.

وربما سكنه لمدة ثلاثين عاماً تقريباً في مبنى متواضع في محلة البسطة التي كانت عمق بيروت الشعبي ومعقل “القبضايات” ومسرحاً يومياً لحياة المدينة بكلّ تفاصيلها، قد جعله يعيش أسطورة المسرح الشعبي في هذا الحيّ البيروتي، فكوّنت لديه فكرته المجنونة الأقرب إلى المغامرة بأن يطمح إلى إنشاء مسرح يومي.

عاش شوشو هادئاً وخجولاً ومهذباً (على الرغم من شخصيته المسرحية الثائرة)، ومات “درويشاً” ومديوناً ومقهوراً (!).

كان ظاهرة إستثنائية لن تتكرّر قط في لبنان.

شخصيته الفنية:

تميّزت شخصية شوشو بطابع خاص استقاه من وحي شخصية شارلي شابلن، لكنه طوّرها بشكل أنسى معها المشاهدين لعشر سنوات (1965 -1975) أن شوشو مستوحى من الكوميدي العالمي. وأحبَّ أيضاً لوريل وهاردي وتأثّر بالكوميديا العربية وأعجب ببشارة واكيم وإسماعيل ياسين.

إن صوته وصفاته الجسدية (نحيل وضئيل الجسم وشعره كث طويل مجعد وشارباه كثيفان بصورة طبيعية ومن دون إضافات، وصوته رفيع مميّز، ولكنته يأكل معها العديد من الأحرف وينطقها بطريقة مضحكة وطفولية وعفوية)، كلّها تضافرت مع النصوص الجديّة جداً، لتخرج من هذه الخلطة شخصية لم تضاهها في التأثير والشهرة أيّ شخصية أخرى.

في التمثيل، ساعده جسم مرن طيّع يمكنه أن يؤدي الكوميديا الحركية والإيمائية، وصوت يعرف كيف يتلاعب به، وتقنية رفيعة في الأداء الكوميدي مقرونة بميزان يقيس ضحك الجمهور ولا يخطئ.

تطوّر أداؤه من مسرحية إلى أخرى حتى إستطاع مسرحه أن يطوّر نوع الكوميديا التي يقدمها. وأصبح مسرحاً شعبياً لا من حيث إقبال الجماهير فحسب، بل كونه أصبح منبراً شعبياً.

عاشق المسرح:

كان شوشو عاشقاً للمسرح، بحيث يحضر إلى الخشبة قبل ساعتين من العرض، ينير غرفه وقاعاته بالكهرباء، يجلس بين الكواليس يدخن، ويغفو أحياناً على أريكة صغيرة وضعها لينام عليها… كأنما تراب الخشبة يمدّه بالأوكسجين. يضع ماكياجه بنفسه، يطمئن إلى أنّ كلّ شيء على ما يرام، ثمّ ينطلق إلى الخشبة، وحين يسمع ضحكات الجمهور وتصفيقه ينسى همومه النفسية وآلامه البدنية.

النكتة السياسية الساخرة:

اشتُهر بأنه يضمّن مسرحياته “لطشات سياسية” تتضمّن نقداً لحالة راهنة. وكان الجمهور يطرب لهذه النكات ولم يكن السياسيون (موضوع الإنتقاد) ينزعجون، لأنّ النقد مغلّف بالسخرية.

وذات يوم انطلقت شائعة مفادها أن شوشو ألقى نكتة (بدي صباط فرعته فرنجية، وشريطه كامل، يصائب ع إجري)، وهي ليست بنكتة بل شتيمة. والقصة مفبركة من أساسها، لكن الشائعة انتشرت كالنار في الهشيم، ورافقها خبر إعتقاله بسببها. إلى حدّ أن صديقاً اتصل به في مكتبه وسأله: “صحيح إنت معتقل؟”، فأجابه: “ما إنت عم تطلبني ع مكتبي”.

ملأ شوشو الأجواء ضحكاً وانتقاداً للسيء السائد في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وكان يقضّ مضاجع الفاسدين من سياسيين وغير سياسيين في البلد، وأصبح نقده اللاذع، نكاتاً تتردّد على ألسنة النّاس في كلّ مكان.

الديون أرهقته وقضت عليه:

على الرغم من أن مسرح شوشو كان يغصّ بالجمهور كلّ ليلة، فإنّ الديون رافقت التأسيس وبالفوائد الباهظة، خصوصاً وأنّه لم يكن يملك المال عندما أسّس المسرح ولم ينجح في الاستدانة من المصارف، فلجأ إلى المرابين وكانت الفوائد باهظة 5% في الشهر، الأمر الذي جعل مشكلة الديون تكبر ككرة الثلج وتتراكم، حتى غدت أحد الأسباب التي قصمت ظهر الفنان القدير مبكراً!.

فإيراد شباك التذاكر كان يذهب نصفه إلى صاحب القاعة والنصف الآخر إلى شوشو وشريكه محمد الطوخي، وبعد دفع رواتب الممثلين والعاملين في الفرقة وتكاليف الانتاج يتقاسمان ما تبقى من مال. وكان على شوشو أن يدفع 60% فوائد الديون للمرابين. وبالقليل الذي يبقى له ينفق منه على مصروفه الشخصي ومصروف عائلته، الأمر الذي دفعه إلى إنتاج أفلام سينمائية بقصد زيادة المدخول للتمكّن من الوفاء والإلتزام بالمستحقات المالية المترتبة عليه. لكن ولسوء طالعه لم تحقق هذه الأفلام الأرباح المرجوة فتضاعفت ديونه، التي أرهقته مالياً ونفسياً، بل وصحياً. فكان يمضي وقتاً طويلاً في تدبير أمر تدويرها وسدادها.

بيد أنه على الرغم من ديونه الباهظة، كان شوشو يحرص على دفع رواتب عناصر الفرقة في اليوم الأول من الشهر، وعلى صرف المكافآت المتفق عليها للكُتّاب والمخرجين.

كانت وفاة شوشو عام 1975 إيذاناً بموت الزمن الجميل، فانطفأت شعلة “المسرح الوطني” وتوقّف قلب بيروت عن الخفقان وأظلمت ساحة البرج، ودفنت وحشية الحرب وإجرامها مسارح بيروت التقليدية والتاريخية، لتنطوي صفحة مضيئة من تاريخ العاصمة، ويتحوّل البلد منذ ذاك الحين إلى “خيمة كاراكوز”.

– يتبع: تأسيس المسرح الوطني

شارك المقال