فيلمون وهبي… العبقري بالفطرة والملحن بالدندنة

زياد سامي عيتاني

37 سنة مضت على رحيل واحد من عمالقة الفن اللبناني (5 تشرين الثاني 1985) من الذين كتبوا بأحرف من ذهب تاريخ الفن، بفضل موهبته الاستثنائية وعبقريته الابداعية الفطرية، تلحيناً وغناءً.

إنه الفنان الموهوب، والعبقري بالفطرة فيليمون وهبي، من دون أن يدرس الموسيقى ولا أن يتعلم كتابة “النوتة”، مستعيضاً عنهما بموهبته الفطرية الفيّاضة التي جعلته يبدع في الألحان الجميلة السهلة، التي يستوعبها الجمهور من أول إستماع ولا يلبث أن يرددها، والتي كان يلحنها عن طريق “الدندنة” وبنقر أصابعه على الطاولة، وحين يولد اللحن يعزفه على العود ويسجّله على آلة تسجيل، ثم يسلّمه إلى الأخوين رحباني وهما يقومان بمهمة تدوين النوتة والتوزيع الموسيقي.

كان أصحابه يذكرون أن موهبته الفنيَّة برزت باكراً، ومنذ البداية تملَّكته وراحت تحفر علاماتها، ويكشفون أنه كان يذهب إلى المدرسة متأبطاً العود(!).

وعلى الرغم من معارضة والده، إنتصرت موهبته في النهاية على كل شيء، فانقطع عن الدراسة وإلتحق بركاب الفن باكراً.

وهذه الموهبة الفذة جعلته يتحول إلى ظاهرة فنية شاملة، تتوزع إبداعاتها على الغناء والتلحين والتمثيل، فاستحق عن جدارة لقب عملاق وفارس الأغنية اللبنانية، بفضل ألحانه وأنغامه التي كانت تتأرجح بين الطرب المكثّف في جمل لحنية عميقة وطرب شعبي رشيق في قالب من الألحان القريبة من الناس والفولكلور وروح الشعب.

تميّزت جمل وهبي اللحنية الطويلة بالسلاسة، وجاءت المواويل في كثير من ألحانه، مثل “فايق يا هوى”، التي بدا فيها الموّال أكثر لياقة وسلاسة وانسجاماً مع صوت فيروز، خصوصاً إذا ما قارنّاه ببعض ألحان الرحابنة التي كانت تفتقر إلى المرونة.

لكن ما كان يُحسب لوهبي أكثر، هو براعته في الارتجال اللحظي، فعلى الرغم من عفويّته، إلّا أنّه لم يخلُ من الانسجام وحسن الصياغة.

تنتمي كثير من ألحان وهبي إلى المدرسة التعبيرية التي تحافظ على أناقة الجُمل وسلاسة إنتقالها بين النوتات، والتي على الرغم من منطقيتها، إلا أنها لم تكن دائماً مُتوقّعة، بل أحياناً تبدو مُفاجئة للأذن، سواء في ألحانه لنفسه، أو لغيره.

البداية الغنائية في الاذاعة:

بدأ فيلمون وهبي حياته المهنية منشداً، إذ إعتُمِد مغنياً في الاذاعة اللبنانية سنة 1937 وهو في التاسعة عشرة من عمره (مواليد 1918)، وفي السنة ذاتها سافر إلى فلسطين وكان يغني في ملاهٍ ومسارح فلسطينية ويمشي على الأقدام إلى يافا ليسجل أغانيه في إذاعة الشرق الأدنى. وكان يومذاك يردد المواويل البغدادية والأدوار القديمة وألحان سليم الحلو.

الاتجاه إلى التلحين:

وبعد سنوات شعر بأن طريق الغناء وعرٌ في وجود نجوم كبار من وزن محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وأدرك أن درب التلحين أسهل وأرحب خصوصاً وهو يملك الموهبة.

وكانت أغنية “على مهلك يا مسافر” باكورة ألحانه، ثم لحنُه الثاني “حملتني فوق الألم” بصوت مطربة تُدعى حنان، وتبعهما لحن “بابا ما دريش بي” بصوت نجاح سلام، ثم كرّت الألحان، ودخل معها فيلمون إلى جميع الاذاعات العربية.

في مطلع الخمسينيات أصبح فيلمون من مجموعة الملحنين الذين وضعوا أسس الأغنية اللبنانية الحديثة مع الأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي.

بداية الشهرة مع “برهوم حاكيني”:

شهرة فيلمون بدأت مع “على نار قلبي ناطر المكتوب” أغنية لنجاح سلام، وهي من الألحان العديدة التي أدّتها المطربة الشابة للملحّن الشعبي، وأشهرها تلك التي سجّلتها في مصر عام 1952، وهي “برهوم حاكيني”، “الشاب الأسمر حيّرني” و”مين قلّك حب”.

يتذكر فيلمون في إحدى المقابلات عام 1962: “لاقت أغنيتي برهوم نجاحاً منقطع النظير، فقد رددها عشرون مليون مصري بعد إذاعتها الأولى على مسرح التحرير، وطار صيت منشدتها نجاح سلام كما تضخم صيت محسوبكم فيلمون”….

بائع الألحان على قارعة الطريق:

كتب الاعلامي الكبير سليم اللوزي في أيلول 1955 يوم كان مراسلاً لمجلة “الكواكب” المصرية، تحت عنوان “فنان لبناني يبيع الألحان على قارعة الطريق”: “… وعاد فيلمون وهبي إلى لبنان، واشتغل بائعاً متجولاً للألحان اللبنانية التي كان يصنعها، وهو يأكل رغيفاً ويضع حبّات من الزيتون، في قريته القائمة على كتف الرابية التي تطل على بيروت. وكان يشعر أن الأغنيات التي يصنعها هي ألحان بازارية، أي شوية أنغام مصرية مخلوطة بشوية أنغام لبنانية ومثلها أنغام عراقية، إلى أن حدث ذات يوم أن ذهب فيلمون وهبي إلى مبنى دار البريد والبرق في بيروت ليسأل إذا كانت هناك باسمه حوالة أو رسالة أو خبر يهدّي به معدته ومعدة أمه الصابرة في القرية. وهناك على أرض مبنى البريد وجد قصاصة من ورق الجرائد طُبع عليها قصيدة زجلية مطلعها (على نار قلبي ناطر المكتوب). وكانت هذه الأغنية أول حجر في مجد فيلمون وهبي الذي أصبح اليوم، خلال الخمس سنوات الأخيرة، ناطحة سحاب. وقامت منافسة فنية واسعة بين صنّاع الألحان اللبنانية، كالأساتذة نقولا المني وسامي الصيداوي ووديع الصافي، وكان فيلمون بطل المعركة، فقد إنتشرت ألحانه كما تنتشر بقع الزيت فوق الأمواج. كان يضع اللحن، ويعطيه لقاء دعوة متواضعة إلى الغداء، وفي آخر الليل، يذهب إلى الملاهي ليستمع إلى ألحانه وهو واقف على الباب لأنه ليس في جيبه ثمن لكأس من الويسكي…”.

صياد الألحان:

كان فيلمون شديد التعلق بالصيد، بحيث كان يضحي بأي شيء مقابل مشوار صيد، ولحن مئات الأغاني الرائعة لكبار المطربين خلال رحلات الصيد، وكانت ألحانه دائماً علامات فارقة في أغاني العصر الذهبي، حيث كان ‫غزير الانتاج، ومع ذلك لم يقع في”التكرار”.

وسبق للاعلامي الراحل رياض شرارة أن سأله في مقابلة تلفزيونية: أنت كيف بتلحن؟، فقال فيلمون: “بلحن أنا وماشي، أنا وبالصيد، أنا وبالبيت، أنا وقاعد، أنا وعم إشرب سيجارة، لما بتجي الغنية الواحد بينعبط وما عاد يعرف كيف يسجلها. وأما حينما يقرر أن يلحن فإنه لا يستطيع ذلك”.

ألحانه لفيروز:

قدم الاعلامي والمؤرخ محمود الزيباوي في مقال سابق له تأريخاً مطولاً عن أعمال وهبي، جاء فيه:

صعد فيلمون مع الأخوين رحباني إلى مدرج بعلبك، وشارك عام 1960 في “موسم العز” حيث غنّت صباح من ألحانه “يا أمي طلّ من الطاقة”.

بدأ فيلمون تعاونه الفعلي مع فيروز في عام 1961، فلحّن لها “يا كرم العلالي” التي غنّتها في بعلبك ضمن “البعلبكية”، ثم في معرض دمشق الدولي. تكرر اللقاء بين شعر الأخوين رحباني وألحان فيلمون عام 1962 في مسرحية “جسر القمر” حيث غنّت فيروز “جايبلي سلام” في بعلبك ودمشق، وغنّى نصري شمس الدين في هذا العمل المسرحي “هدّوني هدّوني” و”نقلي نقلي”.

إستمر هذا التعاون على مدى سنوات الستينيات. في عام 1964، قُدّمت “بياع الخواتم” في الأرز ثم في دمشق، وفيها غنّت فيروز “يا مرسال المراسيل”، وغنّى نصري “عالعالي الدار”.

وعام 1966، غنّت فيروز “كتبنا وما كتبنا” في دمشق، وبين “جايبلي سلام” و”كتبنا”، و”عالطاحونة” و”يا كرم العلالي”.

عام 1968، صُوّر فيلم “بنت الحارس”، وفيه غنّت فيروز “طيري يا طيارة”. أفتُتحت عروض “الشخص” في دمشق في نهاية الصيف، وتواصلت في بيروت في شتاء 1969، وفيها لعب فيلمون دور المحامي وغنّت فيروز “فايق يا هوى”.

بعدها، لعب فيلمون دور “نعوم الهبيلة” في “جبال الصوان” حيث غنّت فيروز “صيّف ياصيف” في بعلبك وفي دمشق.

وفي السبعينيات تواصل تعاونه مع الأخوين رحباني، مثّل فيلمون دور “شبلي” البوهيمي في “يعيش يعيش” عام 1970، ولحّن لفيروز “ليلية بترجع يا ليل”. عام 1971، غنّت فيروز “لو فينا ننقّي حبايبنا” في دمشق ضمن عروض “ناس من ورق”، وغابت هذه الأغنية عن عروض المسرحية في بيروت عام 1972 لأسباب مجهولة. عام 1973، لعب فيلمون دور البدوي في “المحطة” وقدّم لفيروز “يا دارة دوري فينا”. بعدها، غنّت السيدة “على جسر اللوزية” ضمن برنامج “قصيدة حب” في بعلبك. عام 1974، عُرضت “لولو” في بيروت ثم في دمشق، وفيها برزت “من عزّ النوم بتسرقني”. عام 1976، غنّت فيروز في معرض دمشق الدولي “أنا خوفي من عتم الليل”، وهي آخر الأغاني التي جمعت بين صوتها وشعر الأخوين رحباني ونغم فيلمون.

ألحانه لصباح:

في العام 1964، غنّت صباح “أنا ما سكّرت الباب” في فيلم “ليالي الشرق”. قُدّمت “دواليب الهوا” في بعلبك عام 1965، وفيها غنّت صباح “عِنّي يا منجيرة”، “عتيمة عالعتيمة”، “يا أمي دولبني الهوا”.

وتواصلت الشراكة الفنية بين صباح وفيلمون طوال تلك السنوات، وأثمرت مجموعة كبيرة من الأغاني.

في 1960، ظهر فيلمون على الشاشة مع الشحرورة في فيلم “معبد الحب” حيث غنّى برفقتها مطلع “دقّ الباب افتحتلو”.

وفي 1961، غنّت الشحرورة من نظم مارون نصر “دلّو يا دلّو عادربي دلّو”. كرّت المسبحة، وتوالت الأغاني، وغالبيتها كما يبدو من كلمات توفيق بركات: “واقفة عراس الطلعة”، “قوم تنلعب باصرة”، “جوزي ما بيلفي عالبيت”، “السمكة علقت بالصنارة”، “جنينة حبيبي”،”راجعة على ضيعتنا”،و”بلّوطاتك بلّوطة” التي صارت بعدها “ستّوتة يا ستّوتة”. ومن شفيق المغربي “يا ربّ تشتّي عرسان” و”يدوم عزّك”. ومن عبد الجليل وهبي “يا طالعين عالجبل”. ومن توفيق العطار “يا زحلاوية”. ومن مارون كرم “محبوبي جندي بالجيش”.

تضمنت معظم مسرحيات صباح لحناً لـ”شيخ الملحّنين”. عام 1972، في مسرحية “مين جوز مين”، غنّت شحرورة الوادي من كلمات توفيق بركات “روح تجوّز يا عبدو”. وفي عام 1973، غنّت من كلمات الشاعر نفسه “عندي بستان يا سعدى” في “الفنون جنون”. في 1974، قُدّمت “وتضلو بخير” في بعلبك، وفيها غنّت من شعر طعان أسعد أغنيتين منسيتين: “تعا عيش هوانا يا هوى” و”كرجي يا غالي كرجي”. ثم غنّت لأحمد شعيب “عيني يا عيني” في “ستّ الكل”. عُرضت “حلوي كتير” في عام 1974، وتضمنت “روحي يا صيفية” من شعر طلال حيدر، و”تغندري يا مغندرة” لجورج خليل. تنتهي هذه السلسلة مع مسرحية “شهر العسل” عام 1978، وفيها من كلمات توفيق بركات “شو اسمك” و”شرفي وأرضي”.

الشخصية الكوميدية:

لم يقتصر نشاط فيلمون على التلحين. ويمكن القول إن شهرته كملحّن لا تقل عن شهرته كصوت كوميدي محبّب في اسكتشات إذاعية عديدة.

يذكر أن أول عمل أعدّه لفيروز في الاذاعة اللبنانية كان إسكتش “زيت وزيتون”، ونال إعجاب المستمعين، وقدّم إسكتشات عديدة في بداية إنطلاقة فيروز، وفيها كانت تقوم بدور “فهيمة” التي يصطاد لها هو العصافير، وأحياناً بدور “وردة”.

شخصية “سبع”:

إشتهر فيلمون تمثيلاً أيضاً، بشخصية “سبع” وقدّم من خلالها مجموعة من “الاسكتشات” مع الرحابنة، منها “رابوق” و”كاسر مزراب العين” و”الغربال” و”براد الجمعية” و”بحر الستات” و”أوتومبيل” و”الناطور”.

وفي إطار شخصية “سبع” قدم بعض الأغنيات، ومنها “بسيطة” و”الحسون” و”طل البوسطجي” و”الترين” و”صندوق الفرجة”.

وعن شخصية “سبع”، يذكر منصور الرحباني في كتاب “طريق النحل”: “ذات يوم كنا نستعد لتسجيل أول إسكتش لنا (بارود اهربوا). كنت أمثل شخصية مخول، وعاصي شخصية بو فارس. وأعطينا شخصية سبع لشاب كان يغنّي معنا في الكورس ولم أكن مرتاحاً لأدائه التمثيلي لأن شخصية سبع كانت مميزة وطريفة وتتطلب طواعية في التمثيل لم تكن موجودة لدى ذاك الشاب الذي أصلاً ليس ممثلاً محترفاً بل مغنّي كورس. يوم التسجيل شاءت صدفة هي فرصة تاريخية رافقتنا طوال مسيرتنا الفنية، أن يمرض ذاك الشاب ويتغيب عن الاذاعة. فتقت فجأة فكرة في بال عاصي فسألني: شو رأيك نجرّب فيلمون للدور؟. وهكذا كان. وإذا بموهبة كوميدية هائلة مذهلة تنفتح أمامنا مع فيلمون خلال التمرين على شخصية سبع التي من شخصية فيلمون نفسه، أخذت تتبلور أكثر فأكثر. ومنذ ذلك الحين بدأنا مع فيلمون تعاوناً فنياً طويلاً انطلق من اسكتشات (سبع ومخول) الخمسة عشر. ثم نقلنا تينك الشخصيتين معنا إلى المسرح والتلفزيون والسينما والكثير من أعمالنا الفنية اللاحقة. وأشهد أن شخصية سبع انزرعت في شخصية فيلمون حتى اختلطت الشخصيتان، فذاب فيلمون نفسه بشخصية سبع حتى في حياته الشخصية والعامة. ومرات كثيرة كان ينسى نفسه في المجتمع، فيبقى سبع” حتى خارج التمثيل، وعاش في هذه الشخصية طوال حياته. يبقى فيلمون بشخصية سبع وشخصه هو كإنسان كبير، محطة كبيرة في مسيرتنا الفنية. وله فضل كبير في نجاح أغان كثيرة في أعمالنا، كتبناها ولحّنها هو وغنّتها فيروز، وهي بين أنجح أغانيها على الإطلاق…”.

الغناء الساخر:

إشتهر فيلمون باسكتشاته التي مثّلها وأغانيه المكتوبة أو المرتجلة الساخرة، سواء من الوضع الاجتماعي أو السياسي، والتي لم يخلُ كثير منها من العبارات المُقذعة، لكنّها كانت خفيفة الظلّ أيضاً. إتّسمت معظم هذه الأعمال بارتكازها على قوالب لحنية لبنانية تقليدية، قابلتها كلماتٌ جديدة وفكاهية، إضافة إلى تلقائية الأداء، مثل “سنفرلو ع السنفريان” و”وين كنتي رايحة يا شرن برن” و”كشّو الدجاج” و”همبرغر”، و”فيلمون أتى”، و”البوسطجي” وغيرها..

موسيقاه إلى العالمية:

ترجمت أعماله وموسيقاه في أوروبا، وخصوصاً أغنيات “بسيطة” و”دايشتك بوم” و”قلبي نازل دق” وغيرها، على يد أساتذة موسيقيين مثل الإيطالي إدواردو بيانكو والبريطاني رون غودوين، كما أنشدت فيروز أغنيته الشهيرة “جايبلي سلام” في باريس في إحتفالات الذكرى المئتين للثورة الفرنسية، ويومها كان صوت فيروز الصوت العربي الوحيد، الذي شارك في إحياء الذكرى عام 1989.

خير ما نختم به حديثنا عن فيلمون وهبي، وصف الباحث والمؤلف الموسيقي الأكاديمي الدكتور وليد غلمية ألحان فيلمون وهبي بأنه “إعجاز في بساطتها وتعقيدها”. من دون أن ننسى ما وصفته به السيدة فيروز بشيخ الملحنين اللبنانيين، في حين أن الأخوين الرحباني كانا يغازلانه بلقب “فاكهة المسرحية اللذيذة”.

كلمات البحث
شارك المقال