الناس تتحسر على زمن… “جحش الدولة”

زياد سامي عيتاني

كان “يتمخطر ويتغندر” في ساحات بيروت، يصول ويجول في شوارعها، يربط مناطقها بعضاً ببعض، يمضي بثقة ما بعدها ثقة، متسيداً الطرقات بلا منازع، وكأنه ملك متربع على ما عداه من وسائل النقل.

انه “الأوتوبيس” (حافلات النقل العام)، الذي ظلمته الناس، عندما أطلقت عليه منذ بدء تشغيله لقب “جحش الدولة”، على الرغم من خدمات التوصيل التي كان يقدمها لها، وبأسعار مخفضة، بحيث أن تعرفة التوصيلة كانت تتراوح ما بين ١٥ و٢٥ قرشاً، فضلاً عن الاشتراكات الشهرية المدعومة للطلاب والموظفين.

كيفما نظرت، وفي أي مكان، يتراءى أمامك “الأوتوبيس” منتصب القامة، بعيداً كان أو قريباً، بلونيه البيج والأحمر، وبحجمه الضخم، فطوله عشرة أمتار، وعرضه متران، وإرتفاعه أقل من ثلاثة أمتار بقليل.

و”الأوتوبيس” هو الوريث الشرعي لـ “الترامواي” الكهربائي، الذي بدأ العمل به إعتباراً من العام 1908، بدلاً من المقطورات التي كانت تجرّها البغال والأحصنة.

فقد أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً، في أيار عام 1964 بوقف العمل كلياً بـ”الترامواي” ورفع عرباته عن السكك الحديدية في الشوارع، بذريعة أن معداته وعرباته وخطوطه أصبحت قديمة وعاجزة عن خدمة المواطنين ولا تواكب التطور الذي تعيشه بيروت، وبالتالي قررت إستبداله بالحافلات التي تعمل على البنزين، من دون أن تكون مقيّدة بخطوط ثابتة، وبالتالي فاعتمادها يخفف من أزمة السير (!). علماً أن “الباصات” الجديدة عملت على الخطوط نفسها التي كان “الترامواي” يعمل عليها، وعندما تخطت نطاق سيره خلقت مشكلة مع سائقي السيارات العمومية.

وعُرضت معظم العربات في المزاد العلني من أجل سداد الدفعة الأولى من ثمن الباصات الذي قدّر بـ14 مليون ليرة لبنانية! فاشترت الصين الشعبية قسماً، واشترى قسماً آخر تجّار الخردة على أنه أنقاض حديدي، كما تحوّلت بعض المقطورات الباقية إلى مطاعم في منطقة شوران في الروشة.

وبالفعل طلبت الدولة اللبنانية 150 حافلة Saviem-Chausson جديدة حلت مكان “الترامواي”. ومنذ ذلك الحين، تمت عملية التسليم والتسلم بين “الترام” و”الأوتوبيس” الذي أطلق عليه “جحش الدولة”، وصار منذ ذلك الحين، سيد النقل العام، الذي يسير في شوارع بيروت بثقة عالية.

كانت الناس تنتظر طلته المهيبة عند المحطات المخصصة لتوقّفه، وهي عبارة عن خيمة أو مظلة حديدية، لحمايتها من الشمس صيفاً ومن المطر شتاءً، وتحتها مقعد للمنتظرين قدومه.

ما أن يصل الى المحطة، حتى يفتح السائق بابين بصورة آلية بواسطة “أزرار” تحكم كهربائية، واحد لنزول الركاب وآخر لصعودهم. فيتسابق الركاب المنتظرون على الدخول إليه، طمعاً بإيجاد مقعد للجلوس. أما الركاب الذين ينزلون من الباب المخصص لهم، فهم أكثر هدوءاً وإنتظاماً من الصاعدين، كونهم وصلوا إلى وجهتهم.

عند دخولك الحافلة، تجد غرفة أشبه بـ “كابين” صغيرة من الزجاج، يجلس خلفها قاطع التذاكر للركاب، تدفع له الأجرة، فيقتطع لك تذكرة تحتفظ بها، لاظهارها في حال جال المفتش على الركاب، للتأكد من الدفع، ثم تبحث عن مكان للجلوس على المقاعد الجلدية، في حال لم يكن مزدحماً، وإلا ستضطر للبقاء واقفاً، ممسكاً بشريط جلدي مسدل من عمود حديدي أفقي أشبه بجسر يمتد من أول “الباص” الى آخره، وعليك أن تبقى مثبتاً بتحكم، خصوصاً عندما يستخدم السائق المكابح، خوفاً من الانزلاق، (كان يتسع لـ 42 راكباً جالساً و23 واقفاً).

ولأن “الأوتوبيس” كان يعمل في زمن كانت الدنيا بألف خير، والأخلاق والفضيلة سائدة بين الناس، فإن ثمة عرفاً كان معمولاً به، أنه في حال صعد إليه رجل أو إمرأة كبيران في السن، ولم تكن هناك مقاعد شاغرة، يتسابق الجالسون فوراً على إخلاء مقاعدهم لهما، إحتراماً لسنهما الذي يجعلهما غير قادرين على البقاء واقفين طيلة الرحلة.

يذكر أن الكثيرين من الناس كانوا يستخدمون “الأوتوبيس” بهدف الترفيه وتمضية الوقت، فكانوا يستقلونه (خصوصاً الخط البحري)، من دون أن تكون لديهم وجهة معينة، سوى التنزه ومشاهدة بيروت الجمال والرقي من خلف زجاج نوافذه.

أما عن أسباب تسمية “الأوتوبيس” بـ “جحش الدولة”، فلا تزال حتى يومنا هذا مبهمة وملتبسة، وتتضارب حولها الروايات. مع الاشارة الى أن هذا اللقب، لا يمت بصلة الى معنى تعبير “جحش الدولة” ومدلوله في عدد من البلدان العربية، الذي يطلقه الموظفون على يوم الخميس، وهو اليوم الذي يسبق العطلة الرسمية لديهم.

الرواية الأولى لا تخلو من الطرافة والبساطة، فكما هو معروف، وقبل عربات الخيل و”الترامواي”، كان محظياً من يملك من الناس “جحشاً”، لأنه يدل على حسن حاله، إذ كان يُستخدم للتنقل، وللبيع، ولنقل كل الأحمال، لذلك سمّت عامة الناس حافلات “الأوتوبيس” بهذه التسمية، لأن “الجحش” كان وسيلة التنقل في الزمن الغابر.

أما الرواية الثانية فتقول إن قصّة “جحش الدولة”، بدأت عندما لم يتمكّن “البيارتة” من إيجاد ترجمة لبنانية حرفية لكلمة “أوتوبوس” الفرنسية أو “باص” الانكليزية، فأطلقوا تسمية “جحش الدولة” على الحافلات التي بدأت تقلّ الناس في العاصمة بيروت وضواحيها.

وتوضح الرواية الثالثة أن لقب “جحش الدولة” أطلق على “الأوتوبيس” لكثرة ما يحمل من أثقال، على غرار “الجحش” الحقيقي.

قد تكون أسباب التسمية في محلها وقد لا تكون، وربما تكون من مخيلات العامة، سواء كانت جدية أو على سبيل الطرافة.

بقي “جحش الدولة” ينغل في شوارع العاصمة المليئة بالحياة، يربط شرقها بغربها، وينقل أهلها وزوّارها، ويعرّف الغرباء على أحيائها وشوارعها وساحاتها وأسواقها حتى العام 1975، حين تغيّرت وظيفته بعدما حوّلته الأطراف المتحاربة إلى متاريس ودشم، فإذا به يستلقي مرغماً “بالعرض” على جنبه في شوارع بيروت، ليقطع أوصالها ومواصلاتها ويفرّق أهلها، بعدما كان صلة التواصل والتوصيل بينهم.

شارك المقال