إنتفاضة المرأة: نزوة حياة وقيامة وطن

د. سيلفا بلوط

جسّد التحول الذي طال حياة المرأة، وما زال، مفصلاً مصيرياً في حياة المجتمع والوطن أيضاً، على الرغم من أنه يشقّ طريقه ببطء نحو التحرّر والتقدّم، إما بسبب خوف المرأة نفسها وتردّدها نتيجة ما استدخلته من قيم ضعف وخنوع، أو بسبب المجتمع الذي تعمّد وضع “ألغام” في وجه مسار انتفاضتها خوفاً على “هيبته” والانتقاص من “سيادته”.

ويأتي هذا التحوّل الذي يتجلّى في تفاصيل كثيرة لدى المرأة ليحرّرها من الشعور بالخوف، والاحباط، والدونية وينقذها من مجتمع لطالما “عايرها” بنقص موجود في الأساس في بنيته، وليس فيها، أي في المرأة نفسها. بمعنى آخر، لجأ هذا المجتمع، كأي فرد مضطرب نفسياً، إلى إسقاط ما يخاف أن يتم “معايرته” به على المرأة.

لقد سعت المرأة جاهدة، على مرّ سنوات طويلة، وما زالت إلى “نقض” كل ما صدر في حقّها من أحكام “مؤبّدة” تمادى المجتمع في صدورها بهدف “تحجيمها”.

ومن هذا المنطلق، وفي سبيل استعادة “ذاتها” التي فقدتها من جرّاء تعسّف نال من كيانها كأنثى وكفاعلة، أتت المرأة لتصوغ من نفسها “إشكالية” خاصة وفريدة من نوعها، طرحت من خلالها منظوراً جديداً في بناء هوية وطنية، وبادرت إلى ترجمتها على أرض الواقع من خلال انتفاضة اختزلت تعطّش وطن بأكمله إلى الحرية.

وما يبدو جلياً أن كلّ ما جرى من محاولات، وما زال، لتحجيمها، ترغيباً أو ترهيباً، ينعكس إيحاباً على استعدادها النفسي والذهنيّ لتحقيق هذا المنظور. بمعنى آخر، نراها تتّجه إلى الثأر لكرامتها بدلاً من خنوعها واستسلامها.

وإذا ما قاربنا تفاصيل هذا التحول لوجدنا أن كلّاً من مظاهره ترجم أهميته الخاصة على أرض الواقع.

وأتى رفضها لإلزامها على التكيّف مع واقع سلب منها إنسانيتها بمثابة إعلان عن بداية لتحول تخطى حدود الأسرة، مروراً إلى المجتمع، وصولاً إلى الوطن، وكأن هناك تبدّلاً حصل على مستوى “الذوق”. إذ لم يعد يروق لها طعم الخنوع الذي وصل إلى أدق تفاصيل حياتها، وفكرها وحتى جسدها.

ولم يكن الصوت سوى الشرارة الأولى التي كسرت حاجز الصمت الذي لازم حياتها منذ البداية. بتنا نسمع، في كلّ مرة، استنكار المرأة لواقعها، والمطالبة بتغييره والهتاف بعبارات “الحياة”… وكأن كلّ ذلك ما هو إلا تعبير عن ألم تسبّب به “جرح نرجسيّ” وصل إلى أعماقها بعد أن شقّ طريقه كأثلام عبر التحكّم الوقح لمجتمعها “العاجز” بجسدها. هذا الجرح حرّك معه انتفاضة امتدت على مساحة وطن متعطّش إلى الحرية.

لقد رفضت المرأة حتمية فرَضَها “سيستام” اجتماعي وديني وسياسيّ عزَلها عن وعيها، وشعرت فجأة وكليّاً أيضاً بأن عليها الإنقطاع عن هذا العزل وقطع أوصاله والخروج نحو الضوء. وانعكس رفضها هذا في رفض المضي “زحفاً” في فوضى اجتماعية ونفسية وحتى جسدية.

وأتى التحوّل في حياة المرأة ليعكس نقداً لواقع موصوف بالهمجية ورفضاً لعملية استلاب تقصّدته بنية اجتماعية وثقافية سبّبت لديها “نكوصاً” فكرياً واجتماعياً. كما عكس، في الوقت عينه، ترجمة لنقد ذاتي دفع بها إلى رؤية ما لم تره من قبل من خنوع وضعف.

يلجأ المجتمع الذكوري إلى تحميل المرأة المسؤولية في خراب المجتمع والوطن في كلّ مرة ترفض واقعها الكدر وتنشد تغييره. كما يتهم “انتفاضتها” بأنها تسهّل التآمر على وطنها وحصاره، ساعياً بذلك إلى جعلها “مذنبة” بهدف تبرير قتلها، أو تصفيتها نفسياً وسياسياً واجتماعياً.

في النهاية، هناك من “راح عن باله”، سواء كان نظاماً اجتماعياً أو سياسيّاً أو حتى دينياً، أنه في مثل هذا الجوّ أو هذا الواقع، انتظرت المرأة طويلاً وصول اليوم الذي ستنطلق فيه “نزوة الحياة” الكامنة في داخلها وسيتجسّد تحوّلها في انتفاضة وطن.

خلاصة القول، قام المجتمع الذكوري بتزوير “حتمية” دينية وسياسية واجتماعية، وجعل منها أساساً لبنائه الجوهري، وأفلت العنان لنزوات القتل والترهيب التي لم يسلم الوطن منها بعد المرأة. وليست انتفاضة المرأة سوى تعبير عن إرادتها في رفضها بأن تكون “كبش محرقة” لأنظمة ديكتاتورية وتيوقراطية.

شارك المقال