المقاهي الشعبية… تختصر تاريخ بيروت القديمة

زياد سامي عيتاني

مقاهي بيروت الشعبية أو “القهاوي” كما كانت تسمى باللغة المحكية، التي غابت عن المدينة، بعدما كانت جزءاً من معالمها، كما غابت معها الوجوه العتيقة لروادها، وكأن الزمن قد توقف خارج أبوابها التي أقفلت نهائياً… كانت تخبئ الكثير من الحكايات والنوادر والمآثر التي تتعلق بمروءة “القبضايات” ورجولتهم وطرائف الظرفاء، ونقاشات السياسيين والأدباء، فضلاً عن حماسة و”زكزكات” لاعبي الورق وطاولة الزهر و”الداما”، عندما يكون “الدق” محشوراً، من دون أن يعلو صوت على نداء زبون: “نارة يا ولد”، لوضعها على “راسنفس” العجمي…

والأهمية التي اكتسبتها مقاهي بيروت القديمة تعود إلى أنها المكان الوحيد المتاح أمام الرجال في ذلك الوقت للتلاقي والتسلية والترفيه، كما أنها المنتدى والملتقى للشرائح الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة، إرتبطت إرتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للعاصمة، بحيث لم تقتصر أجواء المقاهي على تمضية الوقت والتسلية، بل كانت تعقد البازارات والصفقات في أروقتها بين التجّار المحليين والوافدين، وتطلق منها الدعوات الى التظاهرات والاضرابات.

كما كانت “القهاوي” المكان الذي يحلّ فيه زعماء الأحياء المحليون “القبضايات” الخلافات بين أبناء “الحي” على فنجان قهوة.

كذلك أخذت المقاهي حيّزاً كبيراً من إهتمام الأدباء والشعراء والصحافيين، الذين كانوا يقصدونها إما للكتابة والتأليف، أو للنقاشات الأدبية والفكرية والسياسية، قبل أن تصبح مكاناً للمتقاعدين والعاطلين عن العمل و”لعيبة السبق”، بعدما تحوّل عدد كبير منها إلى مكاتب “بارولي” لرهانات سابق الخيل.

وفي موسم الانتخابات كانت تتحوّل “القهاوي” إلى مكاتب إنتخابية تتمّ فيها التطبيقات السياسية، وتشكيل اللوائح الانتخابية، بعد تركيب “الكومبينات” والتحالفات السياسية، خصوصاً وأنها كانت تخضع لنفوذ زعماء السياسة ومفاتيحهم الانتخابية، كلٌّ بحسب المنطقة التي تقع فيها.

فمقاهي البسطا، مثلاً، كانت تؤيد الرئيس صائب سلام وتعمل بحمايته، فيما كان “مقهى صليبا”، الذي افتتح عام 1951 في المزرعة، تحت حماية الوزير البيروتي هنري فرعون الذي إعتاد زيارته مع النائب الراحل نسيم مجدلاني.

أما مقهى “الجميزة” الذي يعود للعام 1929، وكان وقتها عبارة عن خيمة أقامها أحد “قبضايات” المنطقة المعروف بـ “الأسطا باز”، على واجهة إحدى البيانات، فكان يتحوّل الى مكتب إنتخابي للشيخ بيار الجميل.

في موازاة ذلك، إعتمد بعض أصحاب “القهاوي” سياسة “مع الواقف” (!) فإذا ربح النائب بقيت صورته معلّقة على الحائط، وفي حال خسارته سرعان ما كانت تنزع لتعلّق صورة النائب الجديد مكانها.

ما كان يميز تلك المقاهي طابعها الشعبي والبساطة اللذين كانا يخيمان على أرجائها وأجوائها، مما جعل منها فسحة مريحة لروادها، ومتنفساً لهم بعد عناء العمل، من دون تكليف ولا تصنّع، كلّ واحد على سجيته وطبيعته، لا رسميات ولا “إيتيكيت”.

جدرانها كانت مطلية بالكلس الملون حفر الزمان تعباً على ملامحها، طاولاتها خشبية تحفظ عُقَدَ أصابع الزبائن، كراسيها مصنوعة من الخيزران والقش تحتضنهم كما كانت بيروت تفعل، “ركاوي القهوة” و”أباريق الشاي نحاسية”، القهوة تقدّم بالفناجين العربية، أما الشاي فيقدّم بكاسات زجاجية شفافة، الـ Menu هو مجرد لوح معلّق مكتوب عليه لائحة أسعار المشروبات الساخنة و”الكازوز” و”الأركيلة” ووسائل التسلية.

أما الزبائن الدائمون، فهم مجموعات كلّ واحدة أشبه بـ “شلة” إعتادوا الجلوس مع بعضهم البعض حول إحدى الطاولات، حتى أصبحت جلساتهم طقساً يومياً يجب تأديته، (وفي حال غاب أحد أعضاء “الشلّة” لا يتأخرون في السؤال عنه أو حتى زيارته في المنزل للاطمئنان عليه).

وعلى أنغام صالح عبد الحي وعبدو الحامولي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، المصحوبة بقرقعة “الأراكيل”، يمارسون مختلف أنواع اللعب بالورق من “الليخة”، “الأربعمية”، “بندورة”، “التريكس”، و”المشلّحة”، يصرخون ويتشاجرون من أجل لعبة ليس أكثر، يرجعون أطفالاً تشقّ التجاعيد طرقاتها على أجسادهم وقلوباً كالشيب النابت فوق رؤوسهم، وتحفظ الجدران ألوان عيون الرواد، غمزاتهم وإبتساماتهم بعد الربح، فيما يلعب البعض الآخر طاولة الزهر والداما، ونادراً الشطرنج.

أقفلت “قهاوي” بيروت أبوابها، فتصدّعت أبواب المدينة، وصارت مشرّعة أمام كل ما هو”فرنجي برنجي” (!) ولم نعد نملك إلا التأمل في تفصيل وجوه من عاصر تلك الحقبة، بكلّ ما حفرته السنون عليها، متحسرين على واقع لا يشبه بيروت ولا تشبهه.

شارك المقال