مكتومو القيد… حلول قانونية معلّقة

ليال نصر
ليال نصر

يفتقر مصطلح مكتومي القيد بالمفهوم اللبناني إلى تعريف واضح. فقد وردت كلمة “المكتومين” قانوناً في سياق الحديث عن معاهدة لوزان أي عند نشأة الجنسية اللبنانية، بينما يستخدم تعبير مكتوم القيد ليشمل كل من كان له الحق بالجنسية اللبنانية بحكم القانون، أي المولود من أب لبناني أو المولود في لبنان من والدين مجهولي الجنسية أو والدين مجهولين أو من كانت أصوله عثمانية مقيمة في لبنان عند نشأة الجنسية اللبنانية، لكن لم يحصل عليها لسبب ما.

وتوضح ممثلة جمعية “روّاد الحقوق” برنا حبيب لموقع “لبنان الكبير” أنه إلى جانب فئة مكتومي القيد، هناك في لبنان فئة تُطلق عليها تسمية “قيد الدرس” وهي تشمل أولاد وأحفاد أشخاص كانوا من دون جنسية معيّنة عند الاحصاء سنة 1932 وتسجّلوا بهذه الصفة عندها، وتحوّل وضعهم القانوني في ستينيات القرن الماضي إلى “قيد الدرس” ولا يزالون كذلك، وهم أيضاً لا يحملون جنسية محدّدة لبنانية أو أجنبية. يضاف إليهم أولاد مولودون في لبنان من أهل أجانب لم يعمدوا إلى تسجيل ولاداتهم في لبنان تمهيداً لقيدهم في بلدانهم بسبب اشتراط إقامة الأهل النظامية في لبنان لقيد الولادة من أهل أجانب أو لم يعمدوا إلى قيد الولادة في الدولة الأجنبية فقط بسبب الكلفة في السفارات أو كلفة مصادقة الأوراق الأجنبية المطلوبة وأسباب مختلفة أخرى.

وتشير حبيب الى أن الجمعية اعتمدت في دراستها القانونية الأولى في لبنان والعالم العربي عام 2009 بشأن انعدام الجنسية، التعريف الدولي الواسع لانعدام الجنسية بتصنيف كل من لا يحمل جنسية ما على أنه عديم الجنسية أو مكتوم القيد مستخدمة التعبيرين من دون تمييز، وهو تعريف اعتمده مجلس شورى الدولة في قراراته الصادرة في العامين 2012 و2014 بمعرض الطعون بسحب جنسيات عدد من المجنّسين بالجنسية اللبنانية عام 1994.

لتحميل الدراسة، إضغط هنا

أعدادهم بحسب الاحصائيات

ليس هناك إحصاء رسمي بعدد عديمي الجنسية، فالدولة اللبنانية لم تعمد إلى إحصاء سكاني شامل منذ العام 1932، علماً أن كلاً من الاحصاء السكاني العام ومسح فئات السكان هما من مهام الدولة بأجهزتها الاحصائية والاجتماعية.

وتلفت حبيب الى أن الجمعية كلفت عام 2012 مركز دراسات بتنفيذ دراسة مسحية لتقدير حجم ظاهرة انعدام الجنسية على مستوى الوطن. بناء على النتائج غير المنشورة لهذه الدراسة والعمل الميداني مع عديمي الجنسية، يقدّر العدد التقريبي لهم في لبنان بين 50 و60 ألف شخص، من دون احتساب الأجانب (الفلسطينيون وعديمو الجنسية من اللاجئين السوريين) وفئة “قيد الدرس” التي تضمّ حوالي 28 ألف شخص.

تجدر ااإشارة إلى أن أكثر من نصف عديمي الجنسية في لبنان مولودون من أمهات لبنانيات.

مناطق انتشارهم

ينتشر عديمو الجنسية في كل المناطق اللبنانية، لكن هناك جماعات متركّزة في المناطق الحدودية مع سوريا (عكار، البقاع وبعلبك الهرمل) ومع فلسطين المحتلة (القرى السبع) حيث يتواجد عدد كبير من أبناء القبائل العربية الذين بقوا عديمي الجنسية نتيجة عدم شملهم في إحصاءات أي من لبنان أو سوريا بفعل تنقلهم وعدم وجود مكان إقامة ثابت لهم، أو أبناء المناطق التي لم يتم تحديدها بعد أو تلك التي سُلخت عن لبنان وأُلحقت بفلسطين في عشرينيات القرن الماضي.

إضافة إلى ذلك، يكثر عدد عديمي الجنسية في محافظتي جبل لبنان وخصوصاً في ضواحي بيروت الجنوبية والشرقية والشمال وتحديداً في طرابلس والبداوي، وهم ينتمون بغالبيتهم إلى عديمي الجنسية وأولاد العمال الأجانب المقيمين بطريقة غير نظامية.

كيفية التعامل معهم

توضح حبيب أن الاجابة تختلف وفق ما إذا كنا نوصّف التعامل الرسمي أو التعامل الحقوقي أو الأكاديمي أو تعامل المجتمع المدني أو المجتمع العريض.

بالنسبة الى الدولة هناك فئتان من عديمي الجنسية:

1) حاملو بطاقة اقامة قيد الدرس ولديهم سجلات وبالتالي معروفون لدى الدولة ولديهم إمكانية ممارسة بعض الحقوق.

2) فئة مكتومي القيد والأجانب الذين لا يحملون أية أوراق وهم الأكثرية وغير مرئيين قانوناً للدولة. هؤلاء لا توجد سياسة أو إطار قانوني يحميهم ولا حقوق واضحة مقوننة، ولا سجلات لهم ولا أي معلومات لديها عنهم، لكن بالطبع هم أشخاص طبيعيون وموجودون بالنسبة الى العدالة ويعاقبون عن أي جرم يقومون به .

بالنسبة الى المجتمع المتخصص، من حقوقي وأكاديمي وغيره والمجتمع المدني، كانت هذه الفئة غير مرئية كذلك حتى الأمس القريب حين بدأنا نلمس بعض الاهتمام بدرسها والعمل عليها.

وتقوم جمعية “روّاد الحقوق” بتقديم تدريبات متخصّصة لهذه المجتمعات ضماناً لصحة المفاهيم وآليات العمل.

يبقى أن المجتمع العريض لا يزال بعيداً عن هذه الفئة ولا يوفّر لها الاحتضان والدعم اللازمين ليقوم أفرادها بدور منتج في المجتمع من جهة وبالمطالبة بحقوقهم من جهة أخرى. كما أن هناك بعض المفاهيم المغلوطة والنظرة التنميطية التي تؤدي أحياناً إلى التمييز ضدهم أو إلى التنمّر.

إشارة إلى أن جمعية “روّاد الحقوق” تعمل على بناء التضامن المجتمعي مع مكتومي القيد من خلال تعريف مختلف فئات المجتمع على هذه الفئة، ومن خلال مجموعات متطوّعين من عديمي الجنسية ومجتمعاتهم لمساعدتهم في الوصول إلى الحلول التي يتيحها القانون وإلى الحقوق، كما لنشر الوعي بين أوساطهم وفي مجتمعاتهم بشأن هذه الظاهرة. وتعمل كذلك على تنمية الحس النضالي لدى هؤلاء الأشخاص للعمل من أجل حقوقهم.

معالجة الحالات الصعبة

يوفّر القانون اللبناني حلولاً قانونية للغالبية الساحقة من الحالات، لكنها كلها حلول قضائية. وتختلف درجة الصعوبة وفق سبب انعدام الجنسية والاثباتات المطلوب توفيرها والحل القانوني الذي قد يتقرّر للحالة. فعديم الجنسية المولود من أب لبناني يكفي أن يوفر الاثبات على جنسية والده وعلى زواج الأخير وكونه ناتجاً عن هذا الزواج ليصار إلى قيده بموجب حكم قضائي. الصعوبة تكمن في كلفة اللجوء إلى القضاء من حيث المستندات المطلوبة وأتعاب المحامي علماً أن هذه الدعاوى لا تتطلب توكيل محامٍ، والأهم كلفة فحص الحمض النووي الذي بات إجراء شبه منهجي في مثل هذه الدعاوى. كما تكمن في الوقت الذي تستغرقه الدعوى ولاحقاً التنفيذ.

أما الحالات الأصعب فهي التي تطلب اعتبارها بالجنسية اللبنانية نتيجة الولادة في لبنان، حيث يصعب على الكثيرين توفير الإثبات على هذه الولادة وعلى استيفاء باقي الشروط أي عدم اكتساب جنسية أخرى. كذلك الأمر بالنسبة الى الحالات التي تطلب الجنسية انطلاقاً من الأصول العثمانية عام 1924 بحيث يصعب توفير الإثبات بعد مرور حوالي 100 سنة. ونظراً الى كون هذه الدعاوى تقدّم بوجه الدولة ويطلب فيها توكيل محام ويكون تعاطي الدولة في الغالب منطلقاً من كونها خصماً يدافع عن نفسه بشتى الطرق ومنها المماطلة والردود غير المبنية على أسس صحيحة أكثر منها من أحقية الدعوى ذاتها. وقد تطرقنا إلى هذه الاشكاليات في دراسة صدرت في العام 2019 بعنوان “جنسية قيد القضاء”.

المساعدة المتوافرة ومن يقدّمها

من حيث المساعدات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن القول انها شبه معدومة. فهذه الفئة لا تستفيد من برامج وزارة الشؤون الاجتماعية الموجّهة لمكافحة الفقر، وإن كان أحد الوالدين لبنانياً بحيث تقتصر الافادة على أفراد العائلة المسجّلين في القيود من دون غير المسجّلين أو مكتومي القيد. وليست هناك أية برامج أهلية تقدّم لهم مساعدات أسوة باللاجئين أو فئات أخرى.

من حيث المساعدة القانونية، هناك بعض البرامج الحديثة العهد التي يشغلها عدد من جمعيات المجتمع المدني لتقديم الاستشارات أو التمثيل القانوني للجوء إلى القضاء، لكنها تقتصر على فئة مكتومي القيد من والد لبناني.

كما تشغّل جمعية “روّاد الحقوق” برنامج مساعدة قانونية شاملاً، يغطي كل فئات عديمي الجنسية في لبنان، ويتضمّن الاستشارات القانونية المعمّقة والمرافقة أمام المحاكم وتقديم الاستدعاءات للحالات التي لا تتطلّب توكيل محام، والمرافقة لتوفير المستندات وتغطية كلفتها وتغطية كلفة فحوص الحمض النووي، وصولاً إلى التمثيل القانوني من خلال تكليف محامين للحالات المعقّدة قانونياً أو المهمّشة.

كما تعمل الجمعية على تقديم مساعدة جماعية من خلال السعي الى تغيير القوانين والسياسات بهدف توفير المزيد من الحماية والوصول إلى الحلول بصورة جماعية، وبرامج أبحاث وتدريب لفهم الظاهرة تمهيداً للعمل على وضع حدٍّ لها. وربما برنامج الجمعية لا يزال الوحيد الذي يتعاطى مع هذه الظاهرة بصورة شاملة من خلال المساعدات القانونية الفردية والمناصرة والبحث والتدريب.

الحلول المطلوبة من الدولة

المطلوب الأساس تقول حبيب “هو تطوير القوانين خصوصاً بالنسبة الى تسجيل وقوعات الأحوال الشخصية، من ضمن رؤية سياسية شاملة واضحة للوقاية والحد من هذه الظاهرة. في هذا الاطار قدمت الجمعية عام 2021 اقتراح قانون الى المجلس النيابي لتسجيل وقوعات الأحوال الشخصية يشمل كل فرد موجود على الأراضي اللبنانية أو مسجّل في لبنان. من خلال هذا الاقتراح، يمكن تحديد عديمي الجنسية ومعرفة عددهم، عبر شملهم ضمن سجلات قيود الدولة كعديمي جنسية، كما يمكنهم قيد وقوعاتهم الشخصية تجنّباً للوصول إلى واقع يشبه واقعنا اليوم حيث توجد عشرات آلاف الوقوعات غير المسجّلة والتي تتسبّب في كتمان قيد الكثيرين. وهو اقتراح موجود اليوم في أدراج مجلس النواب من ضمن الاصلاح الأشمل لتطوير قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية.

كما تقوم الجمعية اليوم باعداد مشروع قانون متكامل للجنسية اللبنانية يكرّس ويوضّح الضمانات ضد انعدام الجنسية وكيفية تطبيقها، ويضع ضوابط واضحة وصارمة للتجنس أو اكتساب الجنسية بالزواج بشكل يضمن الولاء للبنان ويحفظ الجنسية اللبنانية وحقوق الأفراد في الوقت عينه، كما يعطي للمرأة حق نقل الجنسية لأولادها بشكل يقي من انعدام الجنسية عندما يكون الأب عديم الجنسية أو مكتوم القيد.

والمطلوب ثانياً، أن تقوم الدولة بمسح شامل لتحديد عدد عديمي الجنسية وملامحهم وفئاتهم ووضع حلول عملية وممكنة تصب في مصحلة الدولة والفرد معاً، ومنحهم وضعاً قانونياً واضحاً يوفّر لهم الحماية والوصول إلى الحقوق الأساسية منها العمل على حلول جماعية وتسويات أوضاع للوقوعات السابقة بطرق سهلة ومبسّطة ومتاحة للجميع إنما مع ضوابط تضمن صحتها وأحقية الأشخاص المعنيين بالجنسية، تغني عن اللجوء إلى الدعاوى الفردية التي تستغرق موارد ووقتاً من الدولة والقضاء والأفراد على السواء.

والمطلوب ثالثاً تكثيف التنسيق بين مختلف الفاعلين لتسليط الضوء على هذه الظاهرة وتوفير الدعم المجتمعي والعمل على توعية هؤلاء الأفراد على حقوقهم والحلول القانونية المتاحة لهم، لتوفير المزيد من الحقوق والخدمات لهذه الفئة.

كلمات البحث
شارك المقال