“كانون الفحم” نجم سهرات البيروتيين

زياد سامي عيتاني

مواسم الصيف والشتاء وما بينها، لها نكهة خاصة، ومميزة في التراث البيروتي، فهي تحمل في طياتها عبق الماضي الجميل، الذي انقرض إلى غير رجعة، بفعل عوامل الحداثة والتطوّر والمدنية، بكلّ ما حملت معها من متغيّرات جذرية وجوهرية في نمط الحياة البيروتية.

فلكلّ موسم نكهته وخاصيته في المنازل خلف الأبواب الموصدة.

ليالي الشتاء البيروتية في الزمن الغابر، كانت تهوج بصوت الرياح والمطر الغزير، والهواء “الذي يقص المسمار”، عندما يضرب خشب النوافذ الخارجية للمنازل القرميدية، “الشرحة” ذات السقوف العالية والغرف الواسعة، محدثاً صفيراً وقرقعة، وسط جو يسوده البرد القارس.

وبما أنّ النار “فاكهة الشتاء”، كان أفراد العائلة البيروتية يجتمعون في “أوضة القعدة” (غرفة الجلوس)، محصّنين بالملابس المضادة للبرد من شالات وقبعات من الصوف، حول موقدة الفحم التي كانوا يسمونها بـ”الكانون” المليء بالفحم و”الدَق” (الفحم المكسر إلى حبوب صغيرة) المتوهج، وسط جو من “الكنكنة” ليستمدوا الدفء من الأجواء المفعمة بالمشاعر العائلية الحميمة.

اذاً، “كانون الفحم” أو “المنقل” كان نجم السهرات المنزلية البيروتية، عندما يتوسّط “أوضة القعدة”، والنار المتجمرة في داخله كالنجوم المتلألئة في السماء، بحيث كان ذا مكانة مميّزة في الزمن الغابر، وكانت له قيمة إجتماعية وثقافية وتراثية مهمة، اذ كان يعتبر من أهم الموجودات والمقتنيات في المنازل البيروتية، ومن الضروريات التي لا بدّ منها، قبل اكتشاف الوسائل الحديثة للتدفئة، للتغلّب على برد الشتاء القارس، الذي يسمونه “الزمهرير”.

و”كانون الفحم” عبارة عن إناء معدني مكعب، له جزء أعلى شبكي ومنخفض إلى الداخل، يُوضع فيه الفحم ويُشعَل، والجزء الأسفل منه أكبر من العلوي، فيه فتحة كبيرة لمرور الهواء وينزل فيه الرماد.

بالنسبة الى وقود إشعال “الكانون” فكان يعتمد على الفحم، وهو قطع سوداء محروقة من جذوع الأشجار، وتحديداً السنديان وغيرها كالطلح أو الكتر أو الهشاب، ويتميّز عن الحطب بأنه خالٍ من اللهب والدخان اللذَين يُغطيان سطح الإناء بالسَّكن.

وقد حرص البيارتة على إقتناء ما هو نحاسي من “كانون الفحم” المشغول و”المدقوق” بشكل وأسلوب فنيين رائعين، ليكون بمثابة تحفة فنية تشكل جزءاً لا يتجزأ من “إكسسوارات” ديكور المنزل، التي يتباهون بها.

لذلك، كانوا يتوارثون “الكانون” جيلاً بعد جيل، فنادراً ما يشتريه الأبناء، بل ينتقل إليهم من الآباء والأجداد، إذ كان يعتبر بالنسبة اليهم، تحفة فنية تقتضي المحافظة عليها، نظراً الى قيمتها المعنوية والتراثية في آنٍ معاً.

وقال فيه أحد الشعراء:

أَرى الفَحمَ في الكانونِ ذا لَهَبٍ غَدا

يَلوحُ وَيَخفى حَيثُ في اللَّيلِ ظُلمةُ

كَجَيشٍ مِنَ الزَّنجِ اِستَدارَت جُموعُه

وَمِن بَينِهِم تَبدو وَتَخفى الأسِنّةُ

وجرت العادة أن يجتمع كلّ أفراد العائلة حول “الكانون” الممتلئ بالفحم و”الدق” المشتعل باللون الأحمر، الذي يزداد توهجاً كلّما طالت السهرة، فيكون الفحم المخصّص للتدفئة ذو استعمالات عديدة ومختلفة. إذ يستخدم للأركيلة العجمية “الطهمزية” التي يدخنها كبير العائلة، فتبقي “النفس” والعاً طوال السهرة. أما ست البيت فتستعمل جمر “الكانون” لتسخين الشاي مع بعض عيدان القرفة، فتفوح منه رائحة زكية، تدفئ العقول قبل الأبدان.

كما تستخدم نار الفحم المشتعلة لشي الكستناء، والبطاطا الحلوة، والشمندر الأحمر، التي بمجملها تحتوي على النشويات والسكريات، التي تزوّد آكليها بمزيد من الطاقة.

بدورهم الأولاد يتسابقون الى الاقتراب من “الكانون” طمعاً بالحصول على مزيد من الدفء لأجسامهم المنتفضة من البرد، وتتزاحم الأيدي أيّها تكون فوق الفحم المشتعل ليجري الدم مجدداً بها بعد أن يكون قارب على التجمّد.

“كانون الفحم” الذي كان أسلوب حياة، وصار جزءاً من الذاكرة الشعبية، التي تحاكي الماضي، لا يعرفه إلا من جلس حوله بشغف وألفة، بحيث تأبى ذاكرته نسيان كلّ الحكايات والذكريات التي كانت تدور الى جانبه.

شارك المقال