الانتحار اللامعياري… في الحالة اللبنانية

تالا الحريري

تعود قضية الانتحار إلى الواجهة مجدداً مع إقدام خمسة أشخاص على الانتحار خلال أسبوع واحد بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، ما رفع العدد الذي وصل في كانون الثاني الماضي إلى 11 شخصاً. وهذا الأمر كنا شهدناه في بداية الأزمة، حين أقدم عدد من الشبان على حرق أنفسهم بالبنزين، ومنهم من أطلق الرصاص على رأسه. كل ذلك بسبب عدم قدرة المواطن على تحمّل تكاليف المعيشة الباهظة والتي باتت مدولرة فيما لا يزال يتقاضى راتباً زهيداً على الليرة اللبنانية. فمن أين له أن يؤمن أقساط مدرسة أولاده والطعام لعائلته وتكاليف الطبابة والاستشفاء والمواصلات والايجار وغيرها الكثير، بينما ما يملكه لا يكاد يكفيه أياماً معدودة أو اذا كانت لديه أموال فهي عالقة في المصارف؟

تشرح أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية ماريز يونس لـ “لبنان الكبير” أنّ “علم الاجتماع فسّر ظاهرة الانتحار وارتفاع معدلاتها في لبنان، من خلال عدة عوامل، خصوصاً العالم الاجتماعي اميل دوركهايم الذي اعتبر أنّ هناك عوامل عديدة تؤثر على ارتفاع معدلات الانتحار أو انخفاضها في مجتمع ما. هذه العوامل ربطها بقوة التماسك الاجتماعي، فكلما كان هناك تماسك اجتماعي قوي كلما انخفضت معدلات الانتحار والعكس صحيح”.

وتشير الى أن “هذا التماسك أنواع أهمها التماسك الديني، يعني في المجتمعات والبيئات التي يكون فيها تماسك بين الجماعات وقوة وحضور قوي لها تتأثر بتحقيق التماسك الديني وبالتالي يبقى الانسان مرتبطاً بهذه الجماعة ويندمج فيها ويحقق وعياً جماعياً بكل القيم التي تتبناها، اذ يتماهى بين قيمها الدينية وقيمه وكل ما يرتبط بمعتقداتها الدينية وهذا ما يؤدي إلى تعزيز التماسك الديني وانخفاض معدلات الانتحار. أما في الحالات الأخرى التي ينخفض فيها التماسك الديني وأيضاً التماسك الأسري فترتفع معدلات الانتحار. كما أنه كلما كان هناك تفكك أسري وانعزال الانسان عن الروابط الاجتماعية والأسرية يمكن أن يدفع به ذلك إلى الانتحار”.

وتقول: “في الحالة اللبنانية هناك نوع من الانتحار سمّاه دوركهايم الانتحار اللامعياري، ويحصل في المجتمعات التي تشهد صدمة اقتصادية حادة، وانهياراً وكساداً وافلاساً، ما ينعكس على الفرد بصدمات نفسية نتيجة الطابع المفاجئ لهذا النوع من الصدمات التي من الممكن أن تنقل المواطن من طبقة إلى طبقة اما بسبب فقدانه العمل أو كل مدخراته وأمواله وغيرها. هذه الصدمة الاقتصادية المفاجئة التي يمر بها بعض الأفراد في المجتمعات، التي تشهد مثل هذه الانهيارات الاقتصادية، تدفعهم إلى الاضطراب الذي يحصل نتيجة اضطراب المجتمع بصورة كبيرة. المجتمع نفسه يعيش حالة اضطراب نتيجة هذا الانهيار الاقتصادي وينعكس بدوره على الفرد”.

أمّا عن سبب قدرة بعض الأفراد على المقاومة بخلاف آخرين، فتجيب يونس: “هنا نعود إلى العوامل الأخرى التي ذكرناها إلى أي مدى هناك تماسك، وإلى أي مدى يبقى حضور الجماعة إلى جانبه، وإلى أي مدى يتلقى العلاج والاستشارات، ومدى قدرته على المقاومة. كل هذه العوامل تجعل هناك تفاوتاً في التفاعل مع هذا الانهيار الفجائي الذي يحصل”.

وتلفت الى أن “لبنان يشهد اليوم حالة تفكك على مستوى مؤسسات الدولة وهذا ما يؤدي إلى غياب شبكات الأمن الاجتماعي، كأن هناك فوضى عارمة تحصل على الساحة اللبنانية من دون أي رادع من الدولة أو الأجهزة الأمنية. قد يتعرض بعض الأشخاص في ظل الأزمة الاقتصادية وغياب مصادر لقمة العيش لتهديدات في حياته وأسرته تؤدي به إلى تزايد توتراته النفسية والكآبة والخوف وحالة الضياع التي يعيشها نتيجة هذه التهديدات من كل ما يحيط به ويؤثر عليه، وتدفعه الى التفكير في الانتحار لعدم القدرة على اللجوء إلى مؤسسات أمنية أو حاضنة تحميه من حالة الاحباط والضياع التي يعاني منها ولا أحد يشعر به”.

أما الأستاذة الجامعية والمعالجة النفسية حنان مطر فترى في حديث لـ “لبنان الكبير” أنّ “هناك نوعاً من التقليد في الانتحار، أي أنّ الأفراد يقلدون بعضهم البعض، والنوع الثاني هو الاكتئاب الذي يصل بالانسان الى إنهاء حياته لأنّه لا يستمتع بها نتيجة الوضع الصعب وعدم قدرته على السيطرة على الأمور والهشاشة النفسية. أي شخص يقدم على الانتحار لكي يوقف هذا الوجع غير المحتمل”.

وتشدد على وجوب “توجيه الشخص الذي لديه فكرة الانتحار الى طبيب نفسي فمن الأفضل أن يأخذ أدوية لأنّه في أي فترة قد يكون مسلوب الارادة وينتحر. ما يدفع الشخص الى الانتحار قد يكون ضعف الايمان أو عدم استقرار الوضع العاطفي أو الوظيفي، وعدم وجود الأمان في أي مكان موجود فيه والفشل المتكرر والظروف المتراكمة”، معتبرة أن “هناك في بعض حالات الانتحار لا يكون لدى الأهل الوعي والثقافة الكافية ليقدّروا ما يمر به هذا الشخص من حالة نفسية صعبة ويزيدوا عليه حتى يصل الى مرحلة يريد أن يوقف الصوت في داخله”.

شارك المقال