“المقاصد”… من المؤسسين إلى المؤسسة، منارة علم ومعرفة وتنوير(2)

زياد سامي عيتاني

نستكمل في الجزء الثاني من هذه السلسلة، تسليط الضوء على التاريخ المضيء والمشع لـ “جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية” في بيروت، تلك المنارة الساطعة على مدى عقود من الزمن بنور التنمية والعلم والفضيلة في أرجاء بيروت، وغيرها من المدن والبلدات، فأنارت ظلام الجهل بالمعرفة والوعي والبصيرة.

الفجر الصادق:

في ذلك يروي “الفجر الصادق” خبر التأسيس كما يلي:

“وهكذا إتحدت الهمم الشبابية في بيروت على تأليف جمعية إسلامية خيرية، فتم ذلك بالمساعدات الالهية، ليلة غرة شعبان المعظم لسنة خمس وتسعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل التحية، حيث إجتمعنا نحن أعضاءها العجزة في منزل أحدنا السيد عبد القادر قباني، وهناك تلا علينا أحدنا الشيخ سعيد الجندي الأحاديث الشريفة النبوية الآمرة بلزوم الاتحاد لخدمة الأمور الخيرية، فتعاهدنا على ذلك، ووضع كل منا ما ألهمه الله من النقود رأس مال لصندوقها، وكتبنا لها بتعليمات على شكل قانون لترتيب داخليتها وإجتماعها ومذكراتها وربط أمورها، وقدمنا بذلك عريضة لجانب الحكومة السنية وإستدعينا مساعداتها ليحيط علمها بعملنا الخيري، كما أننا بادرنا الى طبع تلك التعليمات وعرضها على الحكومة والأمة، وبعد القبول والإتكال على الله سبحانه وتعالى يسر الخير وباشرنا بالأعمال”….

صحافة بيروت تنوه بإنشاء “المقاصد”:

عند الاعلان عن إنشاء الجمعية، التي كانت حاجة ملحة وضرورية للمجتمع البيروتي، لاقى ذلك ترحيباً وإرتياحاً بالغين في الأوساط البيروتية قاطبة. وهذا ما يمكن إلتماسه من خلال تفاعل الصحف البيروتية مع هذا الحدث العظيم، منوهة ومشيدة به، ونعرض لبعضها:

عبد القادر قباني (هو من مؤسسي الجمعية وأول رئيس لها) يذكر خبر تأسيس جمعية “المقاصد” في بيروت في جريدة “الكشاف” كما يلي: “إزاء هذه الأحوال، وإزاء صرخات جريدة ثمرات الفنون، وتشكي الكثير من المسلمين من سوء أحوال أولادهم، وإحساس الأمة الإسلامية بلزوم تأليف جمعيات لها تخدم مبادئها، تحركت همم الشباب المسلم مستمدين العون من الله، ومسترشدين بنصائح أولي الفضل من أعيان الوطن، أمثال رائف باشا متصرف بيروت، وجمال الدين أفندي قاضي بيروت، اللذين ساعدا على نجاح تلك الفكرة، فتأسست جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت سنة 1296 هـ، لخدمة المعارف الإنسانية…”.

أما جريدة “ثمرات الفنون” فقد أوردت الخبر كما يلي: “قد سرنا أنا حصلنا على ما تمنيناه عند أبناء الطائفة الاسلامية في بيروت، وذلك أنه قد تألفت جمعية من خمسة وعشرين شاباً من الأهالي، إنتخب منهم الرئيس وأمين الصندوق والكاتب وسميت (جمعية المقاصد الخيرية) للذكور والإناث، بما يكون به سداد من عوز وكل أمر خير دون المداخلة في الأمور السياسية، وقد شاهدنا الغيرة التامة في هيأة هذه الجمعية بما يتعلق بأمورها، فنثني على غيرتهم، كما نتشكر من يمد يد الاسعاف لمساعدتها إذا كانت غايتها النفع العمومي لا غير. وقد صممت بتوفيق الله أن يكون باكورة أعمالها افتتاح مدرسة للإناث في أقرب وقت، يتعلمن فيها أصول التهذيب والقراءة وما يمكن تعليمه من أشغال اليد”….

بدورها، جريدة “لسان الحال”، ذكرت الخبر نقلاً عن جريدة “ثمرات الفنون” وقالت: “لقد سررنا بما ذكرته ثمرات الفنون من أن الطائفة الاسلامية في بيروت قد أقامت جمعية سمّتها جمعية المقاصد الخيرية، وموضوعها تفقد أحوال الفقراء، وإيجاد مدارس للذكور والإناث”….

“المقاصد” في مذكرات أبو علي سلام:

في مذكراته، يقول سليم علي سلام عن التأسيس ما يلي: “رأى البعض من ذوي الغيرة والحمية حاجة ماسة إلى تأليف جمعية إسلامية تعنى بشؤون الطائفة الإسلامية على الخصوص تعليم أبنائها، فألفوا هذه الجمعية في السنة المذكورة 1296هـ. وكان ذلك في زمن متصرفية رائف باشا الذي أخذ على عاتقه تأسيسها، حتى حضر والياً على ولاية سوريا مدحت باشا، وكانت بيروت يومئذ متصرفية تابعة لولاية سوريا، فبذل عنايته بمساعدتها”….

يذكر أن أبا علي سلام، والد الرئيس صائب سلام، من أبرز سياسيّي المرحلة ومساهم في مشروع الجمعية، وبحكم مكانته الوطنية الخاصة عند أبناء كل الطوائف، تمكن من جمع تبرعات لـ “المقاصد” من الأثرياء المسيحيين، مع ما جمعه لها من تجار بيروت السنة.

وثائق عثمانية تؤرخ نشأة “المقاصد”:

نشر الدكتور خالد الجندي في كتابه “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في ضوء الوثائق العثمانية” مجموعة من الوثائق العثمانية، تتناول الجمعية، نورد منها الآتي: “جاء خبر التأسيس في وثيقة عثمانية مؤرخة في العام 1914 -1915م، أي بعد التأسيس بـ 36 عاماً من تأسيس، وورد ما يلي: لقد تشكلت في بيروت العام 1292هـ جمعية تنويرية الجمعية المسماة (جمعية المقاصد الخيرية) بحيث تشكلت كجمعية إسلامية يعود إليها استملاك أماكن ومؤسسات ومدارس كانت تابعة للمعارف للتعليم، يجب تسليمها إليها، ولذلك قامت وزارتنا الجليلة بتبليغ ولاية بيروت القرار الصادر بذلك، والقاضي بأن المدارس والمؤسسات السالفة الذكر تنحصر عائداتها لصالح الجمعية المذكورة، حيث يرصد ريع أوقاف من خلال قيام علاقة وارتباط مع الجمعية بأفضل طريقة ممكنة… وأما البحث في عائدات الجمعية المذكورة من مبان ومدارس وغيرها، فقد تولى حمل أعبائها كل من: محمد بيهم وكذلك مبعوث ولاية بيروت سليم سلام”….

وجاء في وثيقة أخرى عن خبر التأسيس، وهي مؤرخة في 10 أيار 1914م، أن مدحت باشا كان وراء تأسيس هذه الجمعية، ومما جاء في الوثيقة: “في سنة 1292هـ3 قام أبو الأحرار مدحت باشا بتشريف ورعاية تأسيس جمعية علمية خيرية وهي جمعية المقاصد الخيرية التي قام بتشكيلها خيرة من أشراف بيروت، وأسس هؤلاء هذه الجمعية من منطلق كونهم جماعة من أهل الحمية والجرأة، وانطلقوا في هذه الجمعية برعاية الوالي المذكور حيث اعتمدوا على تأمين واردات لها بشكل حسن، وعلى السعي والغيرة في إستخدام هذه الواردات من أجل فتح المدارس وتأسيسها على نحو حسن”….

كما إن إحدى الوثائق العثمانية أوردت الخبر كما يلي: “… إن بعض مؤسسي جمعية الفنون، وحرصاً منهم على روحية الائتلاف قد قاموا سوية في السابق بتأسيس مشروع سوف يكون في البداية لبيروت بمفردها. غير أن تأثيره سوف يصل إلى كل البلدات الإسلامية فيما بعد، وهو مشروع من أجل دعم المعارف ومساندتها وخدمتها وترقيتها على الوجه الأحسن، ومن أجل ذلك كان تأسيس (جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية)”….

وبعد تأسيس الجمعية، كانت المبادرة الأولى في إنشاء مدرستَين للفتيات، ثم تبعتهما مدارس للفتيان، من بيروت إلى صيدا والنبطية وطرابلس وعكار والبقاع. وأكثر من ذلك، تجاوز صيت جمعية “المقاصد” لبنان ليبلغ يافا وحيفا وحلب ودمشق وغيرها من مدن إسلامية شامية.

يتبع: تأسيس المدارس

شارك المقال