أضواء رمضان (١): الزينة وإنارة المساجد منذ العصر الاسلامي الأول

زياد سامي عيتاني

تعتبر زينة رمضان، على إختلاف أشكالها وألوانها، واحدة من الطقوس الشعبية التراثية التي تنتشر في الكثير من البلدان العربية والاسلامية مع بداية الشهر المبارك، بحيث تمتلئ بها الشوارع في مختلف المدن العربية والاسلامية قبل حلول الضيف الكريم، الذي ينتظر قدومه من عام إلى عام بكثير من المظاهر والأشكال، ترحيباً وتعظيماً لشهر الخير والبركات، لما له من شأن كبير عند المسلمين.

تكتسي الشوارع والساحات الرمضانية بكل مباهجها، ويمثل الفانوس الزينة الرئيسة مترافقاً مع أوراق ملونة ومزخرفة، إضافة إلى سلاسل اللمبات المضيئة التي تضم الكثير من الألوان والحركات الضوئية وتمتد الى مئات الأمتار، ومن منزل الى آخر ومن شارع الى شارع، ويتشارك الأهالي وأبناء المناطق بصورة كبيرة في تحضير زينة رمضان وتركيبها، في ظاهرة محببة تعبّر عن التعاون والتعاضد في ما بينهم.

عادة موسمية:

أحب المسلمون، منذ فجر الاسلام النور، فأضاؤوا أحياءهم ومساجدهم، وتفننوا في صناعته وتشكيلات قوالبه، وإذا حضرتهم المناسبات الدينية، تضاعفت الانارة والأضواء حتى يتسنى للناس الحركة ليلاً إلى مساجدهم، ولذلك، لا نبالغ إذا قلنا إن القناديل المعلقة في المساجد قديمة قِدم الإسلام، ومما يشدّ الانتباه أن وصلات النور واكبت إطلالات رمضان، بوصفه شهر تنزّل أنوار القرآن.

ولم تقتصر عادة إشعال القناديل على رمضان، بل إمتدّت إلى الاحتفالات بغيره من “المواسم” بتعبير الأزرقيّ في “أخبار مكة”، وقد جاء من نماذج ذلك: إشعال القناديل في ليالي النصف من رجب وشعبان، وغيرها من الليالي الموسمية.

وكان لليلة النصف من شعبان في الجامع الأمويّ شأن عظيم، إذ كانت تُسمّى “ليلة الوقيد”، وقد رصد إبن كثير – في “البداية والنهاية”- تواصل إشعال القناديل في تلك الليلة نحواً من ثلاثمئة سنة!

وفي مصر، ذكر المقريزي في “إتّعاظ الحُنَفا”: “أنه في ليلة النصف من شعبان (سنة402هـ) كثُر إيقاد القناديل في المساجد، وتنافس الناس في ذلك”. وقال في أخبار رجب سنة 415هـ: “وكانت ليلة النصف من رجب ليلةً مشهودة، وأُوقِدت المساجد كلها أحسن وقيد”. وقال أيضاً: “إنه جرت الأمور في هذه الشهور المباركة على ما كان الرسم جرى به من عمارة المساجد والجوامع، وتكثير القناديل والزيت وكثرة الوقيد”.

ويبدو أن عادة زيادة إضاءة قناديل المساجد في الليالي الموسمية، كانت منتشرة في البلاد الإسلامية على إختلاف الأزمان، لا سيّما أيام العثمانيين، حيث زاد الاحتفاء بها كثيراً.

فقد ذكر إبن خُمارويْه في “مفاكهة الخلان”: “أنه في ليلة النصف من شعبان [سنة926هـ] أوقِدت قناديل العمارة الخَنْكارية (جامع ابن عربي بدمشق) والجامع الأموي جميعها، كما جرت به العادة في هذه الدولة”. ولذلك، لا عجب أن الأتراك ما زالوا يُسمّون ليالي المواسم كليلة المولد والنصف من شعبان وليلة الإسراء باسم “ليالي القنديل” (Kandil Geceleri)، لأن القناديل توقد فيها بكثرة زائدة!

الخطاب أول من أمر بالزينة:

وبالعودة الى زينة رمضان، فإضافة الى لأجواء المميزة والمبهجة التي تنقلها تلك الزينة بين نفوس الكبار والصغار على حد سواء، إلا أنّ لها أيضاً تاريخاً عريقاً يرجع الى عهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

تفيدنا الروايات التاريخية بأن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كان يُضاء بسعف النخل، حتى قدم تميم بن أوس الداريّ (40هـ) ذات يوم إلى المدينة النبوية حاملاً معه من الشام قناديل وزيتاً، فلما إنتهى إلى المدينة، وافق ذلك يوم الجمعة، فأمر غلاماً له يقال له أبو البَرّاد فعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها الفُتُلَ، فلما غربت الشمس أسرجها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو يُزهر، فقال: “من فعل هذا؟”، قالوا: “تميم يا رسول الله”، فقال: “نورتَ الإسلام، نور الله عليك في الدنيا والآخرة”….

وقد كان عمر بن الخطّاب حينما شرع بصلاة التراويح، قد أمر بإنارة الجوامع وتزيينها بالقناديل بدءاً من اليوم الأول من رمضان، حتى يتمكن المسلمون من إقامة الصلاة وإحياء شعائرهم الدينية بصورة سلسة من جهة، واستقبالاً للشهر الكريم بحلّةٍ جميلة من جهة أخرى، بحيث كانت الأنوار تتصل بين مآذن المساجد والجوامع ومناراتها إلى أن تصبح ليالي رمضان ملأى بالأضواء البراقة.

وبتحوّل إحياء ليل رمضان إلى نشاطٍ جماعي أشرق ليل المدينة النبوية بنور لم تعهده في سائر الشهور. فقد روى الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ) في كتابه “المنتظم” بإسناده إلى أبي إسحق الهمدانيّ: “قال: خرج علي بن أبي طالب (ت 40هـ) في أول ليلة من شهر رمضان، فسمع القراءة في المساجد ورأى القناديل تُزهِر، فقال: نوَّر الله لعمر بن الخطاب قبرَه كما نوَّر مساجد الله تعالى بالقرآن”….

القناديل شعار رمضاني:

على منوال كثير من عادات البشر، تحوّلت القناديل الرمضانية من تصرُّف دفعت إليه الحاجة إلى تقليد ثابت، فصارت الاضاءة الاستثنائية في ليالي رمضان جزءاً من تقاليد هذا الشهر الفضيل التي يُعرف بها.

فقناديل رمضان عَبْر الأزمان صارت شعاراً له يميزه عن شهور السنة ومواسمها. ومن ذلك ما ذكره إبن جبير الأندلسي (ت 614هـ) في رحلته، ناقلاً مشاهداته الرمضانية في المسجد الحرام حين زار مكة، فوصف لنا إحتفال أهلها بدخول رمضان سنة 579هـ بقوله: “ووقع الإحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك.. من تجديد الحُصُرِ وتكثير الشمع والمشاعيل.. حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياءً”.

وقال: “وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قرّاء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العام أحفلُ جمعاً وأكثر شمعاً، لأن قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك، فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً، من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيهما قنطار، وقد حفّت بهما شمعدونهما صغار وكبار، فجاءت جهة المالكية تروق حُسناً…”.

قناديل السحور:

لم تقتصر وظيفة قناديل رمضان على إضاءة المساجد وتزيينها، بل أضحت لها فوائدُ وإستعمالات أخرى، من أهمّها الاستعانة بها على معرفة وقت السحور، كما إستُعين بها لإعلام الناس بثبوت رؤية هلال رمضان. ومن ذلك قول إبن جُبير في رحلته: “والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة (المئذنة) التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً ومذكِّراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه (يرددان ما يقوله)، وقد نُصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع، وفي طرفيه بكَرتان صغيرتان يُرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبيين خيطيْ الفجر ووقع الإيذان بالقطع (الإمساك) مرةً بعد مرة، حَطّ المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان، فمن لم يسمع نداء التسحير، ممن يبعد مسكنُه من المسجد، يُبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يُبصرهما عَلِم أن الوقت قد إنقطع”….

فما أن يحلّ الشهر الكريم، ذلك يعني أن تضاء القلوب بنور الرحمة، وأن تصير الليالي المباركة موئلاً للأنس والفرح، وأن تتلون الأماسي الزاهية ببهجة اللقاء، فتخرج الفوانيس والقناديل والزينات من مخابئها إلى الملأ، لتزيل عن الليل عتمته المقيمة، وتنقي القلوب من ظلمة مستبدة، ولتتنور النفوس والقلوب بنور الإيمان.

شارك المقال