أضواء رمضان (٤): “مدفع الافطار… إِضْرَب”

زياد سامي عيتاني

“مدفع الافطار… إِضْرَب”، أشهر عبارة ينتظرها المسلمون بشغف في شهر رمضان الكريم قبل موعد أذان المغرب، لتكون إيذاناً بإنتهاء فترة الصوم والبدء بالالتفاف حول مائدة الافطار مع العائلة والأصدقاء.

فهذه العبارة التي اعتمدتها في مصر مختلف محطات الاذاعة والتلفزة، المصاحبة لبث صوت تسجيلي لدوي مدفع رمضان، باتت لازمة، تسبق إذاعة أذان المغرب، وكأنها من ثوابت الطقوس الرمضانية التي لا بد منها.

هناك العديد من العادات والتقاليد المميزة التي يرتبط بها الشهر الكريم في الأذهان، وتعطيه طابعاً خاصاً، ومنها مدفع رمضان، الذي يصاحب أذان المغرب والفجر، ويرتبط صوته الذي يدوي في سماء المدن في سائر البلدان بالسعادة التي ترتسم على أوجه الجميع، وتطرب لها النفوس.

ولكن غالبية الناس لا تعرف صوت صاحب عبارة “مدفع الافطار… إِضْرَب”، الأيقونة الصوتية التي ينتظرها الجميع عند حلول غروب أيام رمضان. إنه النقيب في الجيش المصري عبد الحميد عبد المطلب، الذي كان كل يوم في رمضان يصدر أمره في الراديو بصوت ينتظره الملايين ويقول: “مدفع الافطار… إِضْرَب”، فيعطي للأفواه الجائعة، إشارة المرور إلى كل ما لذ وطاب. وكان يقضي الساعة السابقة للافطار، كالنحلة يدور على مدافع الافطار في العباسية وحلوان ومصر الجديدة، لأنه المسؤول عن تجهيزها عبر طريق توزيع الذخيرة عليها، والتأكد من عدم وجود أي خلل، يمكن أن يعطل إنطلاق مدفع الافطار أو الامساك. وكان في نهاية جولته التي تستغرق الساعة السابقة للمدفع، يصل إلى القلعة حيث “الحاجة فاطمة” وهو إسم مدفع الافطار، الذي يفطر عليه ملايين الصائمين، ويسلم طاقمه نصف كيلو من البارود وكبسولة إشتعال (كانت تتكلف جنيهاً كل يوم).

وعند إنطلاق مدفع الافطار كان يشعر الرجل الصائم أنه أدى واجبه، ثم بعد ذلك ينطلق إلى بيته في العباسية حيث تنتظره أسرته ليبدأ إفطاره دائماً متأخراً عن موعده، لكنه كان سعيداً بعمله.

يعتبر مدفع رمضان عادة رمضانية تراثية بإمتياز تنتشر في جميع الدول الاسلامية والعربية، بعدما كان في الماضي حاجة وضرورة قبل تركيب مكبرات الصوت على مآذن الجوامع، وإختراع الراديو والتلفزيون، لاعلام الصائمين بموعدي الافطار والامساك.

أصل مدفع رمضان:

وإذا أصبحت طلقات مدفع رمضان التي هي أشبه بنجمات غروبه وليله وفجره، مجرد إحياء لواحدة من التقاليد الرمضانية المحببة عند الناس، فإنها كانت في الماضي حاجة وضرورة ملحتين لاعلام الصائمين بمواعيد الافطار والسحور والامساك، لأنه في ذلك الوقت كان الوسيلة الوحيدة المتاحة للاستدلال على تلك المواقيت.

وعلى الرغم من تضارب الروايات التاريخية حول أصول نشأة تقليد مدفع رمضان، لكن المؤكد أن بداية الفكرة كانت مصرية المنشأ. فهنالك دراسات تاريخية تشير إلى أن تقليد مدفع رمضان بدأ عام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا، حينما إمتلك جيشه مدافع حديثة الصنع، فأمر بإحالة القديمة إلى المستودعات ووضع واحداً منها في القلعة كتذكار لانتصاره. وصودف في أحد أيام رمضان أن أطلقت من القلعة طلقة مدفعية مع أذان المغرب، فظن المصريون أن هذا لابلاغهم بحلول موعد الافطار، فابتهجوا لذلك وسيّروا المواكب لشكره. ومنذ ذلك الحين أمر والي مصر بإطلاق المدافع مع أذان المغرب وعند الامساك، حتى أصبح تقليداً متبعاً خلال الشهر المبارك.

في مقابل ذلك، هناك رواية تشير الى أن فكرة مدفع رمضان للامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حينما كان يحتل مصر، بحيث أراد أن يقوم بعمل ما يرضي به أهلها، فأمر بنصب المدافع على قلعة القاهرة لتطلق منها قنابل البارود، إيذاناً بحلول شهر رمضان، ويصبح فيما بعد تقليداً متبعاً فيه.

وثمة رواية أخرى تشير إلى أن ضرب مدفع رمضان ولد مصادفة في مصر في عهد المماليك، حيث أنه مع غروب أول أيام شهر رمضان من العام 865 للهجرة رغب السلطان المملوكي خوش قدم في تجريب مدفع كان تلقاه كهدية من صاحب مصنع ألماني، وصادف ذلك وقت الغروب، فظن الناس أنه تنبيه لهم بدخول وقت الافطار، فخرجوا بعده لشكره. ولما رأى سرورهم، قرر المضي بإطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالافطار.

كما أن هناك رواية أخرى تعود إلى عصر الخديوي إسماعيل، حين كان جنوده يُنظفون المدافع الحربية الموجودة في القلعة، فانطلقت بالخطأ قذيفة من المدفع وقت غروب الشمس في رمضان، فاعتقد الشعب أنه تقليد حكومي جديد واستحسنوه. وعندما علمت ابنة الخديوي الأميرة فاطمة بالأمر، أعجبت بالفكرة، وأصدرت أوامرها بأن تُطلق قذيفتان يومياً: الأولى وقت الافطار، والثانية لحظة الامساك، ومنذ ذلك الحين ارتبط المدفع بها فسُمِّي “مدفع الحاجة فاطمة”.

ويذكر العلامة علي الجندي، العميد الأسبق لدار العلوم فى موسوعته “قرة العين في رمضان والعيدين” الصادرة عن مؤسسة “الأهرام” عام ١٩٦٩، أن القاهرة تمتلك ستة مدافع للافطار، موزعة على أربعة مواقع، اثنان في القلعة، واثنان في العباسية، وواحد في كل من مصر الجديدة وحلوان، وهذه المدافع تخرج صباح أول يوم من رمضان في سيارات المطافئ لتأخذ أماكنها المعروفة، ويرجع تاريخها إلى العام ١٨١٧، وهي ألمانية الصنع.

ومدفع القلعة هو أهم المدافع، والذي يسمع الملايين صوته في الاذاعة وقت الافطار.

وعلى الرغم من أن وسائل الاعلام والمساجد المنتشرة والمزودة بالأجهزة الصوتية تُدخل الأذان إلى كل بيت، فإن الإستماع إلى دوي مدفع رمضان بكل شغف هو من الأجواء الرمضانية المحببة، لأن له حضوره الانساني الحميم في الذاكرة الشعبية وهو جزء من تراث رمضان المتوارث.

شارك المقال