“راح على الحرش ورجع بلا قرش”

زياد سامي عيتاني

“راح على الحرش، ورجع بلا “قرش”… مثل شعبي بيروتي قديم، إنسحب على الأولاد، الذين كانوا ينفقون كل ما جمعوه من “العيديات” على لهوهم ومتعتهم وبسطهم و”التشبرق” في “حرش العيد”، الذي كانت تقام فيه ما قبل فترة الحرب، الاحتفالات الشعبية بمناسبة العيد، بحيث تتحول تلك المساحة الحرجية المتبقية في مدينة بيروت، والمكسوة بشجر الصنوبر، إلى مدينة قائمة بذاتها داخل المدينة، وتختصر نمطها الإجتماعي، اذ تعج بالناس الوافدين من كل أحياء بيروت ومناطقها للمشاركة في هذا “الكرنفال” الشعبي، مع الاختلاف في أنواع الألعاب التي كانت مفعمة بالمشاعر الانسانية، بعيداً عن الألعاب العصرية الحديثة.

كان “حرش العيد” طيلة أيام العيد، يضج بالوافدين الذين يصلون اليه بـ”الطنابر” و”الترامواي”، أو مشياً على الأقدام من المناطق القريبة، للاستمتاع بأجوائه، التي يختلط فيها الغناء وأهازيج الأطفال الخاصة بالمناسبة، مع مناداة الباعة ومشغلي الأراجيح والقلابات.

في “حرش العيد” كان ينتشر باعة الكبيس والشمندر والترمس و”الفريسكو” و”المعلل بيعلك” والتفاح المغطس بالسكر المذاب، و”السمسمية”، و”غزلة البنات” و”الكرابيج” و”السحبة” والفستق “العبيد” والكعك بالزعتر أو “القليطة” وعرانيس الذرة و”الملبس على قضامة” و”النعومة”، الى جانب “البصارة البراجة” (التي تشوف البخت)، على وقع رقصات الدبكة، ولعبة السيف والترس، وركوب الحمير، وألاعيب الساحر، وأكشاك مسرحيات “الترسو” (كشكش بك)، و”المصوراتي” (الأرمني) ومرقص العنزة، فيختلط “الحابل بالنابل”، ويعج “الحرش” بالحركة التي لا تهدأ طيلة أيام العيد، التي تضفي على الأجواء الفرح والبهجة، والشعور بالعيد وفرحته.

ولمن فاته أن يعاصر ذلك الزمن الذي كان فيه للعيد رونقه وبهجته، التي تلاشت مع الزمن، نعرض بعض الفعاليات التي كان يشهدها “حرش العيد”، عله يعيش بمخيلته، تلك الأجواء التي كانت على الرغم من تواضعها، مصدر سعادة لا توصف للصغار والكبار على حد سواء:

“القرداتي”:

“القرداتي” كان يرقص السعدان، وهو يدق على الرق مخاطباً قرده: “قوم يا قليل المروة بوس إيد ستك العجوز، وفرجينا كيف بتعجن الصبية، وكيف بتعجن العجوز، وفرجينا كيف بيلبس معلمك الطربوش”.

القلابات والأراجيح:

أكثر ما كان يستهوي الأطفال والأولاد هو ركوب “القلابات” (الشقليبات) و”الأراجيح” (المراجيح والجنازيق) فرحين مسرورين وهم يرددون أهازيج: “يا ولاد محارم.. يو يو”، و”دبوس حديد.. يو يو” الخ… و”يا ولاد أبو شرشوبة.. يويو.. عيشة المخطوبة”.

يذكر المؤرخ عبد اللطيف الفاخوري أن محمد عبد الله بيهم العيتاني إستصنع أسطوانات للفونوغراف وزعها مجاناً وضع فيها أنشودة على وزن أنشودة يويو وأرسل منها كميات الى دمشق وحلب وغيرها بهدف تشجيع العلم، وقال فيها: “يا ناس غنايم يويو، شدوا العزايم يويو، للعلم العالي يويو، تجنوا اللالي يويو” الخ…

“صندوق الفرجة”:

ولا بد للأولاد المحتفلين بالعيد في “حرشه” من مشاهدة “صندوق الفرجة” (تلفزيون ذلك الزمان)، الذي كان صاحبه يجذب الأولاد منشداً أهزوجته المعرفة:

شوف تفرج يا سلام،

شوف أحوالك بالتمام،

شوف قدامك عجايب،

شوف قدامك غرايب،

شوف الأميرة بنت السلطان،

شوف عنتر أبو الفوارس…

و”صندوق الفرجة” هو صندوق خشبي مستطيل مطلي بألوان “فاقعة”، له ثلاثة ثقوب مستديرة، مغطاة بقطع من الزجاج، لتمكين الأولاد من مشاهدة المناظر في داخله، التي يحركها صاحب الصندوق بواسطة دولاب مغلف بالصور المتتالية، التي كانت تبهرهم وتذهلهم بما يشاهدونه، وكأنها كانت عجيبة في حينه.

هكذا كان أطفال زمان يقضون العيد في رحاب تلك الفسحة البيروتية الرحبة تحت ظلال أشجار الصنوبر المعمرة، باللعب واللهو ثلاثة أيام متتالية، ولا يخلو ذلك من بعض “الشقاوة” المحببة، الأمر الذي كان يدفع أهاليهم بعد إنقضاء العيد الى أن يرددوا: “خلص العيد وفرحاتو، ورجع الأستاذ وقتلاتو”.

في زمن الألعاب الالكترونية والأجهزة الذكية، بات الجميع يسأل: ما الذي بقي من فرحة العيد في هذا العصر الذي تباعدت فيه القلوب؟ بل ما هو الجديد الذي يجعل هذا اليوم متغيراً عن باقي أيام السنة التي باتت رتيبة بروتينها الممل؟ البسمة مزيفة والفرحة مصطنعة والمجاملة هي سيدة الموقف، إجتماعاتنا صارت كأنها شيء مفروض ينبع من حس أداء الواجب فقط، فصارت تجتمع الأجسام ولكن القلوب متفرقة ومتباعدة.

شارك المقال