صحة اللبنانيين في مهب التهريب والدولار

هدى علاء الدين

تتفاقم أزمة الدواء في لبنان بوتيرة متسارعة في الآونة الأخيرة، بعد أن طالتها نيران استنزاف الاحتياطي الإلزامي وسياسة رفع الدعم، لتُصبح بذلك معاناة اللبنانيين متعددة الأوجه بسبب نفاد العديد من الأدوية الأساسية التي تعالج أمراضاً مزمنةً ومستعصيةً من الصيدليات نتيجة عدم توفر الدولار لعمليات الاستيراد من جهة، وارتفاع أسعارها بشكل جنوني يفوق قدرتهم الشرائية المنهارة تماماً من جهة أخرى، ناهيك عن اتساع رقعة التهريب وانتعاش السوق السوداء.

وللحدّ من خطورة هذه الأزمة، أعلن وزير الصحة حمد حسن عن خطة الدواء التي أعدتها الوزارة بهدف تأمين حيز من الأمان الدوائي وفق النسبة المعلنة للدعم من قبل مصرف لبنان والتي تدفع بوزارة الصحة مكرهة إلى تحديد الأولويات، مضيفاً أن الإعلان عن اللائحتين سيتزامن مع سلة من القرارات المشتركة بالتنسيق مع الجهات الرسمية الضامنة. لكنّ نقابة مستوردي الأدوية كان لها رأي آخر تجاه لوائح أسعار الأدوية التي أُصدرتها وزارة الصحة على أساس سعر صرف 12000 ليرة للدولار والتي طالبت المستورد بشراء العملة الأجنبية من السوق السوداء (ضعف سعر الصرف وربما أكثر) موضحة أنّ هذا الأمر يكبد المستورد خسائر تفوق الـ 50 في المئة من سعر المبيع، ما قد يعرّضه للإفلاس إذا أراد تأمين الدواء، لا سيما وأن الوزارة حدّدت هامش ربح المستورد بنسبة 6 في المئة، وهي نسبة لا تغطي التقلبات اليومية للعملات الأجنبية بالسوق السوداء، فكيف لها أن تغطي خسارة الـ 50 في المئة، واضعةً نفسها بتصرف وزير الصحة من أجل إيجاد السبل التي تؤدي إلى نجاح تطبيق القرار وتأمين الدواء. من جهتها، دخلت صيدليات لبنان مرحلة الانهيار الكبير، فتعالت أصواتها من أجل دق ناقوس الخطر عبر الدعوة إلى إضراب مفتوح علّ ذلك يسرع في حلحلة الأزمة.

وفي حديث له مع موقع لبنان الكبير، أشار المرشح لمقعد نقيب صيادلة لبنان جو سلوم، أن أهم ما ورد في كلام وزير الصحة هو فتح المجال أمام عملية الاستيراد الطارئ والتسجيل السريع لأنواع الأدوية المفقودة في السوق المحلي بموجب موافقة مسبقة من الوزارة، مع الالتزام بالضوابط الفنية ومعايير الجودة المعتمدة، مشيراً إلى أن الصيادلة ليسوا ضد هذه الخطوة، إنما يبقى الأهم بالنسبة لهم نوعية الأدوية المستوردة وكيفية التأكد من جودتها في ظل عدم وجود مختبر مركزي يسمح بالتأكد من هذين المعيارين، فما هو متوافر فقط مختبرات مرجعية يبلغ عددها 14 مختبراً. إلا أنه في حال استطاعت أي شركة الحصول على شهادة من حيث النوعية من هذه المختبرات Bio Equivalency، أكّد سلوم أن الصيادلة مع هذه الخطوة أياً يكن مصدر استيراد هذه الأدوية، جازماً بعدم وجود ما يسمى عقدة المصدر إنما هناك عقدة النوعية.

وعن وجود الأدوية في مستودعات الصيدليات وعدم بيعها بانتظار رفع الدعم وتحقيق مكاسب مادية، يقول سلوم إن الهم الرئيسي للصيدليات هو المحافظة على عدد محدود من الأدوية الخاصة بمرضاها الذين لا يستطيعون الحصول على أدويتهم من أي صيدلية أخرى. وبالتالي، فإن الكمية الموجودة من الأدوية لديها هي لتأمين حاجات مرضاها، إذ تقع على الصيدلي مسؤولية أخلاقية تتمثل في تأمينها لهم. أما موضوع تخزين الأدوية لغاية الربح فهو غير صحيح لا سيما وأن الشركات تسلّم الأدوية للصيدليات بالقطارة ومعظمها لديها تاريخ انتهاء الصلاحية وغالباً ما يكون لعدّة أشهر فقط ومعظم الوكلاء يمتنعون عن استردادها، لذا ليس من مصلحة الصيادلة تخزينها.

وأسف سلوم لطريقة الدعم التي كانت مُتبعة واصفاً إياها بالدعم العشوائي، بحيث أفسحت المجال أمام عدم توفر الأدوية في كثير من الأحيان في الصيدليات بسبب سحبها إلى السوق السوداء وبيعها بأسعار خيالية، تماماً كما حصل مع دواء كورونا الذي كان يتراوح سعره بين الـ 500 و الـ 600 ألف ليرة، إلا أنه كان يُباع في السوق السوداء بسعر يتراوح ما بين الـ 5 والـ 6 ملايين ليرة. وشدد على أن كفاح الصيدلي اليوم هو من أجل عودة الأدوية إلى الصيدليات واسترجاعها من السوق السوداء وعدم تهريبها إلى الخارج، مشيراً إلى أن السياسة الدوائية الخاطئة التي اعتمدت في السنوات الأخيرة والتي تم بموجبها تخفيض أسعار الأدوية بطريقة دراماتيكية أدّت إلى إغلاق المكاتب العلمية والمصانع وشركات الأدوية التي كانت تُعطي طابعاً مميزاً عن لبنان من خلال المحاضرات والأبحاث، لتبدأ حينها رحلة تهريبها بعدما أصبح سعرها في لبنان أرخص بكثير من الخارج. وما زاد الطين بلة، الأزمة التي بدأت منذ سنة ونصف، وعوض أن يكون هناك ترشيد للدعم منذ بدايتها، استمر الدعم على كافة السلع من دون أي خطة مستقبلية، الأمر الذي أسهم بنفاد الأدوية من الصيدليات وتوافرها حصراً في السوق السوداء التي تستفيد منها جهات معينة من خلال التهريب غير الشرعي وهي المشكلة الأساسية التي تعاني منها صيدليات لبنان.

واعتبر سلوم أن تحرّك الصيدليات اليوم هو تحرك عن كل مواطن لا يُسمع صوته، كي لا يشعر بالذل وهو يحاول جاهداً الحصول على أدويته، مشيراً إلى وجود العديد من الشركات التي تبيع مختلف أنواع الأدوية عبر الإنترنت، إذ يمكن لأي مواطن بحاجة لأي دواء غير متوافر في لبنان أن يطلبه أونلاين عبرها، إلا أن الملفت في الأمر أنه في كثير من الأحيان يستلم المشتري الدواء اللبناني المهرّب والذي يتم إعادة شحنه إلى لبنان على أنه دواء من الخارج، لتكون العملية ناجمة عن تهريب وإعادة بيع بسعر أعلى. وهكذا يدفع المواطن اللبناني سعر الدواء مرتين الأولى من جيبه عبر الدعم والثانية عند طلبه من الخارج بسعر يفوق بكثير سعره الحقيقي في لبنان، وهنا تتجلى قمة الفساد في أزمة الأدوية. وبحسب سلوم، فإن نضال الصيادلة هو نضال ثلاثي الأبعاد يتجلى في نوعية الدواء وتوفره للمريض وسحبه من السوق السوداء للحفاظ على هوية لبنان لجهة التقدم العلمي والانفتاح الكامل على أي تطور في المجال الدوائي، فلبنان كان رائداً في هذا المجال وخير دليل على ذلك كان توافر أي دواء مصنع في الخارج مجرّد حصوله على موافقة الـ FDA في الصيدليات اللبنانية فوراً.

وعن الطبقة الفقيرة التي لن تعود قادرة على شراء أدويتها بعد مرحلة رفع الدعم، يشدد سلوم على ضرورة وضع خطة عاجلة من أجل دعم صناعة الأدوية المحلية والتأكد من نوعيتها وجودتها والتي حتماً ستفتح المجال أمام العديد من فرص العمل، مشيراً إلى أنه لو تم العمل بسياسة ترشيد الدعم منذ أوائل الأزمة لما وصلت الحالة إلى ما هي عليه اليوم، ولاستطاع لبنان الاستمرار في عملية الدعم لمدة زمنية أطول، وتأمين المواد الأولية لصناعة الأدوية المحلية التي يجب أن تكون البديل في المرحلة المقبلة والخيار الأول قبل اللجوء إلى بدائل أخرى في الدول الخارجية.

إقرأ أيضاً: أزمة الدواء تتفاقم والصيادلة ينتظرون حلول وزير الصحة

وأسف سلوم للمرحلة التي وصلت إليها أزمة الدواء والتي لم يعد يُفهم منها أي شيء، إذ بالكاد ما زال لبنان قادراً على دعم أدوية الأمراض المستعصية التي ستكون لفترة وجيزة في حال لم يتوفر الحل السياسي الذي يسمح بتشكيل حكومة تُعيد الاستقرار إليه وتحدّ من انهيار الليرة، لا سيما وأن عدم توفره سيؤدي إلى المزيد من الهشاشة في كل القطاعات ومنها قطاع الصيدلة.

تضيع أزمة الدواء بين أربعة لاعبين أساسيين هم المصرف المركزي، وزارة الصحة، تجمع أصحاب الصيدليات، ونقابة مستوردي الأدوية، تتفق جميعها على وجود أزمة غير مسبوقة في توافر الدواء وتسعيرته. وبالرغم من أن كلاً منهم لديه وجهة نظره الخاصة التي يدافع عنها، يبقى المواطن اللبناني الخاسر الأكبر في هذه الأزمة وضحية بلد كثر فيه الداء والتهريب وقلّ فيه الدولار والدواء.

شارك المقال