“جيل سوريا الضائع” بين الموت ذبحاً أو بالرصاص

حسناء بو حرفوش

كرّست مجلة “فورين بوليسي  “(Foreign Policy)  الأمريكية، مدونة صوتية (بودكاست) لوثائقي من ستة أجزاء يروي القصص الحقيقية لشباب سوريين هجّرتهم الحرب ويحمل عنوان “جيل سوريا الضائع”.

تسلّط المدونة التي أنتجتها “فورين بوليسي” مع منظمات إنسانية الضوء على “جيل كامل من الأطفال الذين لم يعرفوا في سوريا سوى الصراع”، والذين شرذمهم “اللجوء في الداخل والخارج” على مر السنين، منهم “أكثر من مليون شخص يعيشون في إدلب في مخيمات بالقرب من الحدود التركية بعد فرارهم من العنف، ومنهم من يشهد على تدمير النظام الصحي في البلاد بسبب الحرب، حيث دمر القتال المستشفيات. ومنهم من ينعى فرص الشباب السوري مع زيادة الصعوبات التي تحد من وصولهم إلى التعليم.

أما آخر حلقات “جيل سوريا الضائع”، والتي صدرت الأربعاء على منصة “فورين بوليسي” الإلكترونية، فسألت عن مستقبل سوريا كما يراه الصحافيون الذين عملوا هناك، قبل مشاركة قصة معاناة للهرب من مناطق القتال، في بيئة تقسو فيها القلوب وتموت الإنسانية.

من منظور الصحافة، يظهر الوثائقي إلى أي درجة “يرغب الصحافيون الذين عملوا على تغطية الأحداث داخل سوريا بالابتعاد”.  يقول الصحافي ديفيد أندرز الذي غطى الحرب في سوريا وشارك رؤيته حول الوضع في البلاد ومستقبل اللاجئين: “لقد ابتعد كل أصدقائي الصحافيين جميعاً بحثاً عن حياة أكثر سلاماً. هذا قاسم مشترك يجمعنا. أما القاسم الثاني، فهو أنهم لا يرون أن الحرب ستنتهي قريباً!”. وقد باتت الأمور أكثر تعقيداً اليوم. يسمع في البودكاست: “لا أمل بسوريا أفضل مع دخول قوى خارجية كروسيا وإيران وتركيا على الساحة الداخلية”.

لا أمل بوجود الأسد

ويستمع متابعو البودكاست إلى شهادات لا تَعِد بالسلام على المدى المنظور. “قد تستمر الحرب لأكثر من ذلك… ربما لأربعين عاماً بعد. لا أمل يلوح في الأفق والحل الوحيد يقضي برحيل الأسد وقلب صفحة عهده. وإلا لن تنتهي الحرب الأهلية أبداً! بشار الأسد دمر البلد بأكمله، وأهان الناس وسجنهم وقتلهم. يجب محاسبته وسجنه. لا أفق للأزمة السورية طالما هو في الحكم”.

“أرى حربين في سوريا”، يضيف أحد صانعي الأفلام الذي قابله المذيع في المنطقة نفسها التي شهدت مقتل أحد الصحافيين البريطانيين: “حرب بين القوى الدولية ولا دخل للسوريين فيها ولا يستطيعون أصلاً الاختيار. وحرب ثانية بين السوريين أنفسهم والتحدي لإعادة بناء بلدنا.”

وفي الروايات المشاركة، “مخيمات تعجّ بالأطفال. يمكنك أن ترى أنهم لا يعيشون حياة سليمة، لكنهم يحاولون الحلم. الحلم بسوريا أفضل، هم من لم يختبروا سوى الحرب حتى الآن. ومع ذلك، في وجوههم بعض الأمل”.

وتكرس الحلقة مساحة كبيرة لتحول الأماكن الآمنة كالمدارس، إلى بؤر للموت ولرواية أحد الشبان الذين اضطروا للفرار عبر الصحراء مع المئات من أترابه خوفاً من القتل. وفقاً لرواية الشاب التي تتقاطع مع روايات مأسوية بتوقيع الحرب السورية: “شهدنا على القتل ونحن أطفال. لم نعرف البتة لماذا قد تفجّر سيارة في داخلها عائلة بأكملها بينما يعود الناس من صلاة الجمعة. لم نفهم أبداً لمَ قد يؤذن لنا بالاقتراب لمساعدة المصابين ثم ينهال وابل من النيران فوق رؤوسنا. لقد رأينا كل ذلك بأم أعيننا وأدركنا منذ البداية أن أجراس الحرب قد قرعت”.

ويعطي البودكاست صورة عن رحلات التهجير عبر الصحراء والتي قد تتطلب سيراً على الأقدام لعشرات الكيلومترات أحياناً من دون ما يكفي من الماء، بتيسير من المهربين. وأقسى الصور هي “تحوّل الإنسان الذي قد يخلّف والده وراءه ليموت في الصحراء أو يستعد لإسكات طفل خوفاً من الاستهداف بالرصاص أو يخطط حتى لقتل أحدهم لأن التخلص منه كفيل بانقاذ العشرات”.

يشارك الشاب السوري الذي نجح في الفرار إلى ألمانيا تجربة “يحاول نسيانها وحرقها في الذاكرة”، في تجسيد واضح لاضطراب ما بعد الصدمة الذي يعاني منه اللاجئون.

تركوا والدهم ليموت في الصحراء

ويروي: “عندها قرر والدي أنه لا بد من الخروج من البلاد. بحثنا عن رقم أحد المهربين وعبرنا الصحراء. أوصلتنا الشاحنات الى أبعد نقطة ممكنة. أمضينا الليل في بناء صغير بانتظار فريق ثان. 75 شخصاً في غرفة صغيرة، أضيف إليهم 30 شخصاً آخرين، ولم يخبرنا المهربون عن وجهتنا. لم يكن لدينا سوى القليل من الماء… لا ثياب إضافية أو طعام. طلب منا أحد المهربين أن نخفف أحمالنا وخدعنا بالقول أننا أوشكنا على الوصول (…) سرنا مع نساء حوامل وعجزة لعشرات الكيلومترات، وفرغنا من شرب ما لدينا من ماء، حتى بات كل منا يخبئ ما تبقى منه في حوزته خوفاً من التهجم عليه لمصادرته. لقد ترك رجل عجوز مصاب بالسكري خلفنا ولم يعد أحد للبحث عنه. بكى أولاده لكن أحداً لم ينظر إلى الوراء”.

“في لحظة من اللحظات اقتربت مني سيدة وناولتني طفلها”، يكمل الشاب وقد أثقلته الذكريات: “حسام بنيتك جيدة. أرجوك احمله وامشِ. لم أعد أقوى على السير. فقلت في نفسي هذا طفل. هذه مسؤولية. ناولتني الطفل الصغير وأنا في سن 14. أخذته وشاهدت الأم طوال الوقت. وكانت لديها حقيبة، فطلبت منها التخلص منها لتستطيع السير، لكنها قالت إنها تحتوي أغراض الطفل من حليب وملابس وأشياء أخرى. حملته لمسافة سبعة كلم ثم ذهبت إليها لأطلب إعطاءه إلى أحدٍ آخر. فحمله أخي. (…) ثم تعرض أخي لتسمم فحمله شقيقاي مداورة.”

“فلنقتل سائق الشاحنة!”

في البودكاست، تطورات كثيرة على درب الهروب، “أمهات يخفن من الموت في الصحراء، فيعهدن بأطفالهن الرضّع لمن يستطيع حملهم والعبور في ليل دامس وسط طلقات الرصاص في المناطق الخطيرة التي تخضع لمراقبة عناصر الأسد والتي قتلت فيها مجموعات أخرى.”

يقول الشاب: “أخبرنا المهربون بضرورة البقاء صامتين. قد نخسر حياتنا إذا أصدر الطفل صوتاً على سبيل المثال. لكنهم رأونا بالرغم من ذلك، وبدأوا برمي الرصاص علينا (…) انتظرنا السائق الذي يفترض أن يصطحبنا من هذه النقطة. وحين رفض الحضور، إما أن نقنعه وإما أن نقضي عليه”.

في هذه البيئة، لا يعرف أحد إن كان سيموت من القصف أو الرصاص أو العطش (…) نجحت المجموعة بالوصول إلى السائق وإقناعه باصطحابها إلى حدود الأردن، ولكن الذكريات المطموسة ستطاردها دوماً.

في بال أحد اللاجئين، يبقى كابوس الجنود المؤرّق..”إنهم يجبرون من يقع في قبضتهم على الاختيار بين الموت ذبحاً أو رميا بالرصاص”.

المصدر: Foreign Policy

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً