خلاص اللبنانيين… في الهجرة

تالا الحريري

لطالما كانت الهجرة حلم اللبناني منذ زمن بعيد، لكن لم يكن يسعى إليها مثلما يفعل هذه الأيام. في السابق، كان يريد الهجرة لمجرد انقطاع الكهرباء ساعات، أو لتأخره عن عمله بسبب زحمة السير الخانقة في شوارع بيروت، أو ربما عندما يرى المناظر الخلابة في بلدان أخرى كأستراليا وتركيا التي حُرمنا منها في العاصمة بسبب التلوث، أو بسبب إهمال الشعب اللبناني والدولة في المحافظة على البيئة اللبنانية وشوارعها.

اليوم، لا كهرباء ولا حتى لساعة واحدة، لا مياه، لا دواء، لا بنزين، لا مازوت، لا خبز، لا حياة… اللبناني اليوم يريد الهرب ليس من أجل حياة كريمة، بل من أجل البقاء على قيد الحياة فقط.

قريباً سيشهد لبنان هجرة جماعية هي الثالثة بعد الموجة الأولى (١٨٦٥ – ١٩١٦) حين هاجر ٣٣٠ ألف شخص من جبل لبنان آنذاك، والموجة الثانية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥ – ١٩٩٠) حين قُدّرت أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي ٩٩٠ ألف شخص.

إقبال كثيف على مكاتب الهجرة

حسب تقرير مرصد الأزمة، تحصل الهجرات الجماعية من البلدان التي تعاني من ازمات اقتصادية عميقة حيث تُشكل الأزمات عوامل ضاغطة على السكان للرحيل بحثًا عن أمن وأمان وسبل العيش.

وتقول إحدى الإداريات في مكتب “لبنان والشرق الاوسط لخدمات الهجرة والتعليم” (Destination partners) لـ”لبنان الكبير”: “بالطبع زاد الإقبال كثيراً على مكاتب الهجرة وهناك ضغط، لكن للتوضيح ليست كل الفئات العمرية مؤهلة. يتم التعامل بطريقة شفافة، بحيث يتم دراسة الملف قبل الموافقة عليه، فالعمر، المستوى التعليمي، امتحان اللغة ومعادلة الشهادة تلعب دوراً مهماً في عملية القبول. الفئة الأكثر إقبالاً تتراوح ما بين عمر 23 و45، وهناك تلاميذ سنة أولى وثانية في الجامعة يريدون السفر لكن هذا يكلّفهم بدء الدراسة من جديد”.

أمّا بالنسبة للموافقة على الطلبات في ظل هذا التقديم الكثيف، تقول: “الطلبات التي تُقدّم إلى كندا مثلاً للعمل صعبة جدّاً، بالنسبة للتعليم لا يكون هناك موافقة كثيراً في الفيزا إلى كندا وأميركا وأستراليا وغيرها الكثير من الدول، فهم غير مقتنعين بأن التلميذ سينهي دراسته ويعود إلى بلده”.

وتضيف: “كندا كل سنة ترفع نقاطها ببرامج الهجرة، من سنتين كانت نقاطها 424 اليوم أصبحت 474، يعني الزوج والزوجة يجب أن يحملوا أقلّه ماجستير بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية وبعض من الفرنسية وأن تكون أعمارهم أوائل الثلاثينيات”.

أمّا مكتب “Salamas Immigration Law Firm” للمحامين المتخصصين بالهجرة، فيفيد “لبنان الكبير” بأنّ أكثر من 30 شخصاً يومياً يقصدون المكتب، وأنّ كلفة فتح الملف من أجل الهجرة هي شيء رمزي، وأنّ المكتب يعمل بشكل قانوني لتأمين الإقامة في الخارج. عمل المحامين هنا هو القيام باستشارة تساعد الفرد على معرفة ما هو بحاجة إليه ومساعدته في موضوع الإقامة. الهجرة على أنواعها في مكتب المحاماة كلّها قانونية لكن لا يمكننا مساعدة طالب اللجوء”.

مؤشرات مقلقة

أشار تقرير مرصد الأزمة إلى أنه بالنسبة للبنان، فهناك ٣ مؤشرات مقلقة في ما يتعلق بدخولنا في موجة هجرة جماعية والتي من المتوقع أن تمتد لسنوات:

أولًا: ارتفاع فرص الهجرة عند الشباب اللبناني، إذ أشار ٧٧% منهم إلى أنهم يفكرون بالهجرة ويسعون إليها، وهذه النسبة هي الأعلى بين كل البلدان العربية حسب تقرير “استطلاع رأي الشباب العربي” الصادر العام الماضي. إن السعي للهجرة عند الأكثرية الساحقة من الشباب اللبناني هو نتيجة طبيعية لانحسار فرص العمل الكريم حيث يُقدر البنك الدولي أن شخصًا من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف الـ ٢٠١٩ وأن ٦١% من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل ٤٣%.

ثانيًا: الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين خاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي كأطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من أساتذة جامعيين ومدرسين بحثًا عن ظروف عمل ودخل أفضل. فعلى سبيل المثال قدرت نقابة الممرضات والممرضين هجرة ١٦٠٠ ممرض وممرضة منذ ٢٠١٩. وكذلك أفراد الجسم التعليمي الذي هاجر المئات منهم إلى دول الخليج وشمال أميركا، ففي الجامعة الأميركية في بيروت وحدها سُجل خلال عام رحيل ١٩٠ أستاذا يشكلون حوالي ١٥% من الجسم التعليمي.

إقرأ أيضاً: شباب طرابلس… البطالة مخيفة والهجرة أمل

ثالثًا: توقع طول أمد الأزمة اللبنانية، فالبنك الدولي يُقدر أن لبنان يحتاج في أحسن الأحوال إلى ١٢ عامًا ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام ٢٠١٧، وفي أسوأ الأحوال إلى ١٩ عامًا. ومع غياب القرار السياسي بمقاربة جدية للأزمة اللبنانية مما يشي بتعمد الانهيار، فمن غير المستبعد أن تتلاشى مؤسسات الدولة أكثر فأكثر والسقوط في دوامة مميتة تمتد لعقدين من الزمن، والذي سيشكل عاملًا ضاغطًا على مئات الآلاف للرحيل عن وطنهم سعيًا للاستثمار والعمل والدراسة والتقاعد.

وأشار مرصد الأزمة إلى أن تأثيرات موجة الهجرة الثالثة المتوقعة ستكون وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني وهو الأساس في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد.

شارك المقال