تُعتبر مسألة النازحين بسبب الحرب الدائرة بين اسرائيل و”حزب الله”، قضية إنسانية ذات أبعاد وطنية في جوهرها، فهؤلاء نزحوا من بيوتهم وأرزاقهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية هرباً من جحيم القصف الاسرائيلي، ومعظمهم من الطائفة الشيعيّة الكريمة، وأقليّة من السُنّة والمسيحيين والفلسطينيين والسوريين. وقد بلغ عددهم ما لا يقل عن مليون حتى اليوم.
والمفارقة أن الشعب اللبناني بكل مكوّناته فتح أبوابه للنازحين على الرغم من الانتماءات السياسية المختلفة، وهذه ظاهرة إيجابية، تُثبت أن اللبنانيين متضامنون ومتعاضدون في السراء والضراء والحسّ الوطني لا يزال موجوداً مع أن هناك اختلافاً في وجهات النظر.
لكن النزوح الكثيف أثار بلبلة كبيرة على الصعيد الرسمي داخل حكومة تصريف الأعمال، التي اعترف رئيسها نجيب ميقاتي بأنها لم تكن جاهزة لحجم هذا النزوح، مع ذلك، تعاون الحكومة والمجتمع الأهلي وبعض الجمعيات الإنسانية تمكّن من استيعاب هذا النزوح نسبياً.
في المقابل، لم يخلُ النزوح من بعض الاشكالات والعنف، بحيث استخدم بعض المسلّحين الخلع والكسر في عدة أماكن لإيواء النازحين بالإكراه، وربما هذا الأسلوب “الميليشيوي” لم يساعد هؤلاء بل دفع بعض المواطنين في عدد من المناطق إلى عدم استقبال النازحين وإتخاذ موقف مسبق منهم، إضافة إلى بعض أعمال الشغب التي رافقت اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، نتيجة الغضب العارم، وتكررت الإشكالات وإتخذ بعضها خلفيّة سياسية، ما دفع الجيش اللبناني إلى الإنتشار الكثيف في مناطق حسّاسة “تاريخياً”، وخصوصاً حيث هناك اختلاط مذهبي وطائفي. من الواضح أن تدخّل الجيش جاء في الوقت المناسب لأن بعض النفوس كان مشحوناً، ويمكن القول إنه نجح إلى حدّ كبير في درء الفتنة والحدّ من التوتّر. لكن لا شك في أن العدد الأكبر من اللبنانيين تصرف بوعي إذ إحتضن النازحين، وعمل على ضبط النفس في الامتناع عن شتم رموزهم الدينية والسياسية، وحرص الكثير من النازحين على احترام الآراء السياسية للبيئة التي احتضنتهم! هكذا، تقدّم كل طرف خطوة نحو الآخر، وهذا ما كان ضرورياً لضبط الوضع، ما عدا بعض الحوادث من هنا وهناك التي بدأت تتراجع.
لكن هذا ليس كلّ شيء لأن بعض الفعاليات متخوّف من قضية النازحين في “اليوم التالي للحرب”، بمعنى أن يكون هذا الملف “قتبلة موقوتة”، وتوضح هذه الفعاليات أن ظروف الحرب اليوم تختلف عن ظروف حرب تموز 2006، ففي نهاية الحرب السابقة، وقفت أكثرية الدول العربية إلى جانب الشعب اللبناني وعوّضت بملايين الدولارات على النازحين بعد إعادة بناء بيوتهم أو ترميمها، فعادوا معززين مكرّمين إلى مناطقهم، أما اليوم فلا يبدو أن الدول العربية غير الموافقة على استراتيجية “حزب الله” وحربه التي ربط فيها جبهة الجنوب اللبناني بجبهة غزة، ستقدّم ولو “فلساً” واحداً للتعويض على النازحين، إضافة إلى عجز الحكومة اللبنانية، ما سيدفع النازحين إلى البقاء في أماكنهم، على الرغم من إرادة أصحاب هذه البيوت ومالكيها، وكل ذلك قد يؤدي إلى بلبلة أمنية، قد تتخذ أشكالاً طائفية ومذهبية، وربما يستغلّها أحد الأطراف بهدف التغيير الديموغرافي.
وتقلّل مراجع كنسيّة من هذه المخاوف والهواجس، وتتحدّث عن أن الطائفة الشيعيّة منكوبة اليوم، لافتة إلى أن “لا أحد ترك منزله بخاطره لينام في مدرسة ويعيش البهدلة، لذلك هناك وضع استثنائي، ونظن أن الجيش اللبناني قام بواجبه وسيستمر في ضبط الأوضاع، إلى جانب الأجهزة الأمنية والبلديات”.
وترى المراجع الكنسيّة أن الطائفة الشيعية الكريمة تعيش اليوم وضعاً معنوياً منهاراً، نتيجة ما تعرّضت له وهو غير مسبوق في التاريخ، وبالتالي النزوح على هذا النحو الكثيف، من الطبيعي أن يؤدّي إلى بعض الاشكالات.
وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، إذ سُجّلت عودة مهمة لعدد لا بأس به من النازحين السوريين إلى بلدهم، وفق المراجع الكنسية، لأنهم شعروا أن سوريا أكثر أماناً اليوم من لبنان، أما السيناريوات التي تتكلّم عن النازحين اللبنانيين عموماً والشيعة خصوصاً بأنهم قنبلة موقوتة، فليست واقعيّة، لأن هذه الطائفة مكسورة اليوم وتحتاج إلى عون وحماية، وليست في وضعيّة أن تقوم بردود فعل غير محسوبة، مع ذلك، على الجيش أن يبقى العين الساهرة تحسباً لأي نوايا غير حميدة.