استغفال الشعوب… ودعوة للفرح

د. أحمد عبدالله عاشور

مظاهر الفرح والبهجة بادية على محيّاه. كان هذا حال ناطور المبنى الذي أقيم فيه. ومن البديهي أن أبادره مستفسراً عن سبب هذه الفرحة العارمة، وصعقت عندما أخبرني بأنه حصل على 3 ربطات من الخبز لعائلته بسهولة ومن دون انتظار في الطابور.

لقد أصبح الحصول على ربطة الخبز مصدرا للفرحة، وتناسى المجتمع عندها سلسلة من الهموم والكوارث الجسام التي عاصرها لبنان خلال فتره وجيزة، بدءاً من انهيار الاقتصاد فيه وهبوط العملة ومصادرة مدّخرات الشعب في البنوك، إلى تعرقل تشكيل الحكومة حتى الآن وانتشار الفساد إلى درجةٍ مريعة وكارثية وانفجار مرفأ بيروت وحرائق الأحراج، ثم توالت التظاهرات والاضطرابات وتحطيم الممتلكات وإغلاق الطرقات والغلاء الفاحش، ثم فقدان مصادر الطاقة من مازوت وبنزين وغاز ومياه ونتج عن ذلك شلل في حركة التنقل وانقطاع الكهرباء وتلف البضائع وتعطل معظم الحركة التجارية والسياحية في البلد. واصطف البشر في طوابير الذل والعار لساعات أمام محطات الوقود والمخابز. وتعطيل معظم الأعمال الحكومية واحتكار المواد المدعومة من محروقات وأدوية وأطعمة من جهات محسوبة ضد مصلحة الشعب واحتياجه من دون عقاب أو حساب. وبلغت درجة الخطورة إغلاق المشافي وانعدام الأدوية والصراع الطائفي والانفلات الأمني. وهيّجت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الوضع وزادته اشتعالاً. وعمّت الفتنة بين الناس وفقد الأمل في تحسن الأحوال. وأصبحت الهجرة مطلباً ففقدت البلاد خيرة أبنائها ممن أنفقت عليهم ثرواتها لتعليمهم.

سلسلة لا تنتهي من المآسي عصفت بشعب هذا البلد أمام أنظار مسؤوليه، الذين لم يحركوا ساكناً لانقاذه وانتشاله من هذا الانهيار المريع، حتى بدا بصيص من الانفراج بتوفير ربطات الخبز من دون طوابير لكي تظهر بعض معالم الفرح والبسمة على بعض الوجوه اليائسة.

هل أصبحت ربطة الخبز هي منتهى غاية الأماني ومصدر أفراحنا، فتناسينا سلسلة لا تحصى من مطالبنا الأساسية والحيوية والحقوق الشرعية والقانونية التي سلبت واغتصبت أمام أعيننا قهراً وظلماً؟.

إنّ ما يحدث الآن هو استغفال لإرادة الشعوب ومنهج وخطة مسبقة من الحكام لمنظومة إخضاع المواطنين وإرغامهم على قبول الفضلات، والتنازل عن الأساسيات وتناسي حقوقهم المشروعة المسلوبة الخاصة والعامة وإجبارهم على ترك بلادهم للهجرة للخارج لطلب الرزق أو بحثاً عن ملاذ آمن لما يتعرضون له في بلادهم وبذلك يخلون الجو للفاسدين لتنفيذ أجنداتهم.

إن خطة الحكام الظلمة والفاسدين هي إغراق شعوبهم في مشاكل عديدة، ثم تركهم في صحراء قاحلة حتى يدركهم العطش الشديد والإرهاق الجسدي والمعنوي، عندها سيقدم لهم الحكام جرعة ماء لإنقاذ حياتهم فيصبحون في نظر الشعب هم الأبطال والمنقذون في الوقت المناسب ويدين لهم الشعب بالفضل وبالشكر والامتنان على جرعة الماء لإنقاذ حياتهم متناسين مطالبهم الأساسية والشرعية ومكتفين بجرعة الماء.

إن سياسة هذا الاسلوب المتبع لإستغفال البشر واللعب بمقدرات الشعوب وقيادتهم كقطيع من المواشي في البرية، هو ما حدث فعلاً هنا في لبنان حيث مارس المسؤولون سلطتهم بتعريض المواطنين لسلسلة من الكوارث، ثم إخضاعهم لقبول أقل الحلول لإنقاذهم من هلاك مدمر والاكتفاء بجرعة ماء والرقص فرحاً لحصولهم على ربطة خبز.

إنّ الشعب اللبناني صاحب ماضٍ عريق من الثقافة والعلم لا يرضى أبداً بهذا الذل والهوان والاستغلال، وإن كان له قدرة كبيرة على التّحمّل فإنّ الانتفاضة سوف تكون قويّة لإحقاق الحق وإصلاح الأوضاع. ولكن إلى متى؟! وكم من الضحايا والتضحيات سوف يقدمها كي يحصل في النهاية على مبتغاه؟!

لبنان ليس بحاجة إلى المزيد من الانتقاد وإلقاء التهم على بعضنا؛ بل إلى الاعتراف بأخطائنا وقصورنا ونبذ أي خلافات والابتعاد عن الأنانية وحب الذات والالتفاف سويّاً للعمل كيدٍ واحدة من دون طوائف أو أحزاب ولمصلحة لبنان ومواطنيه.

أيها المواطنون اللبنانيون لا تستجدوا الصدقة من أصدقاء ولا تنتظروا المعونة من دول أخرى، فإنّ لبنان غني بثرواته ورجاله، كما أنّ لبنان فقد مصداقية مسؤوليه وفرّط في الثقة بتصرفات حكّامه وإن حصل على أي معونات فمن الواضح جداً والمعروف لمن ستعود تلك المساعدات.

يجب البدء فوراً بالتغيير وأن يكون العمل ذاتياً وطنياً جماعياً خالصاً من دون أحزاب أو طوائف أو تبعيّة لزعيم أو عرق أو طائفة، عندها سيكون عيداً حقيقياً لتحرّر لبنان من هذا الاستبداد والاستغفال، ودعوة للشعب لإعادة صياغة أنظمته وقوانينه بما يحفظ لهم الحقوق، ويصون الكرامة ويعاقب المجرمين العابثين بمقدراته واستغلال ثرواته من دون حساب ويمنع تكرار ذلك مرة أخرى فقد دفع الشعب اللبناني ثمناً باهظاً لأحداث لا ذنب له فيها، وأصبح أضحوكةً ومصدراً للسخرية في نظر العالم بعدما كان شعلة ومنبراً للثقافة والعلم والتّقدّم والتّطوّر الحديث في جميع المجالات.

حفظ الله لبنان وشعبه ومحبيه…

شارك المقال