أطباء الاسنان بين فكّي الأزمة والانهيار

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

… أخيرا لا مفر من الهجرة، قررت طبيبة الاسنان لينا (س) بعد دراسة وتفكير عميق، السفر للعمل إلى الخارج، فمشاكل هذا القطاع الصحي تتراكم ولا حلول أو حد أدنى من الاهتمام، والمواطن لا يستطيع شراء ربطة الخبز، فكيف يقدم على إصلاح أسنانه؟ وإن أصيب بوجع فالقرار جاهز، نزع الضرس المصاب حتى وإن كان من الصعب تأمين البنج، فهو أهون الحلول من دفع كلفة الإصلاح التي تزداد يوما بعد يوم، بفعل ارتفاع سعر الدولار وعدم توافر المواد الطبية اللازمة، بسبب إخفائها من قبل الوكلاء أو تحكّمهم بسعر السوق.

تواجه الدكتورة لينا صعوبات في عملها تتزايد يوما بعد يوم، ما دفعها إلى التفتيش عبر مكتب توظيفات، إلى إيجاد عمل في المملكة العربية السعودية، حيث ستسافر قريبا وحدها تاركة زوجها وأبناءها الثلاثة في لبنان، بسبب ارتباط الزوج بوظيفته الحكومية وارتباط الأولاد الذين هم في مراحل دراسية مختلفة بجامعتهم ومدارسهم.

وتشرح الدكتورة لينا لـ”لبنان الكبير” المعاناة: “كطبيبة أسنان أشتري المواد بالدولار، لا أستطيع إلا أن أحسم ٥٠ حتى ٧٠ بالمئة من كلفة العلاج على المريض، وذلك بسبب الوضع الاقتصادي المزري الذي يمر به المواطنون، حتى أننا لا نقدر أن نحتسب كلفة أكبر على المغتربين، نظرًا لأننا أولا أطباء وثانيا لأنهم مثلنا خسروا ما خسروه من أموال في البنوك اللبنانية”.

أصاب عطل كهربائي عيادة لينا فلم تستطع أن تصلحه، كل الأعطال التي أصابت التجهيزات والمعدات، (معقم، كف كرسي، كف ماكينة أشعة، منظم كهربائي، كومبرسور)، جرى إصلاحها “تعكيز بتعكيز” على حد تعبيرها، مشيرة الى أن “مثل هكذا اعطال لم تكن تقف عائقًا أمامنا من قبل”.

وتتساءل: “كيف يمكن لنا شراء ماكينات متطورة ونحن لا نستطيع إصلاح الموجود؟”، مؤكدة أن “معظم الأطباء استعاضوا عن الكثير من المواد الجيدة بأخرى بديلة ذات مواصفات أقل جودة، كما أن خطط العلاج أضحت نوعاً من التنازل العلمي والطبي على صعيد المعايير الطبية، مراعاةً للظروف الاقتصادية. وأيضا لم يعد طبيب الأسنان قادراً على حضور المؤتمرات أو الدورات العلمية، مما ينعكس سلبا على أدائه”.

وتلفت الدكتورة لينا إلى أزمة انقطاع المحروقات، والوضع المعيشي للطبيب وشعوره بعدم الاستقرار والأمان الوظيفيين، مما يخفف من الحماسة للعمل أو ما يسمى بــ “الاحتراق الوظيفي”. وعن دوافع الهجرة، تقول: “على الصعيد الشخصي، مثل أي مواطن أخاف من المستقبل، هناك مليون سبب يجعلنا نفتش عن عيش بديل خارج البلد، معظمنا أطباء قدمت لهم فرص للسفر والعمل بعروض جيدة في مرحلة ما ورفضوها، لكن ها هم الآن يقبلون بأقل الفرص، لقد تعبنا، السنة الماضية نجا أولادي من انفجار، لكن هذا العام أو العام المقبل هل هناك ضمانة أن لا يصيبهم مكروه، لا أستطيع كأم تخيّل نفسي في الشوارع والساحات وأمام المؤسسات الوصية أحتج وأنا أحمل صورة ولد من أولادي أصابه شيئا لأن دواءه مفقود، لا يمكن أن أتحمل فكرة أن يصبح أكبر طموح لدي هو أن أؤمّن تنكة بنزين وأتمكن من أن أطعم كل الأولاد، أو أن أعدهم بأن الغد سيكون أفضل. لبنان لم يعد يملك قراره السياسي، ومن الأفضل أن لا نكذب على أنفسنا، لا تغيير في الأفق القريب، نهاجر كي لا يخسر أولادنا مستقبلهم، قدرنا المساعدة من بعيد”.

منصات التوظيف

يعمل الكثير من الأطباء في الوقت الحاضر على التفتيش عبر منصة التواصل الاجتماعي LinkedIn، كما على بعض صفحات وغروبات فيسبوك، لإيجاد عمل في الخارج وعلى الأغلب في دول الخليج.

نسأل الدكتورة: لماذا الخليج؟ فتجيب: “لأن الانتقال إلى أي بلد آخر، مثل كندا، يحتاج إلى أموال للاستقرار الأوّلي، كما أنني كطبيبة أسنان أحتاج لما لا يقل عن سنتين ونصف لاجتياز امتحانات البورد الكندي”، أي ما يسمى بمعادلة شواهدي العلمية.

مع ذلك، تبدو الدكتورة لينا على وعي بعدة أمور قد تصادفها، منها أن معظم الأطباء يقعون ضحية عمليات الاحتيال، كما أن أغلب القوانين في بلدان الخليج تمنح الكفيل الحق بتغيير بنود العقد بعد فترة التجربة، وأن العيادات في الخليج قد خفضت ضمنيًا تصنيف لبنان من حيث مستوى الدخل، وبالتالي بعد أن كنا نسمع برواتب تعادل ١٣٠٠٠ دولار مثلًا لاختصاصي طبيب أسنان، بتنا نسمع بأرقام جد متدنية بحدود ٣٥٠٠$ وما شابه، ولا يجب أن نغفل أزمة الكورونا التي أضرت بالعيادات.

وتوضح: “أنا شخصياً اخترت اللجوء إلى أحد مكاتب توظيف، وهي إجمالًا تتقاضى شهراً واحداً على الأقل من الراتب، عدا كلفة إتمام معاملات الهجرة. حتى إننا صرنا نختار مناطق نائية داخل أقطار الخليج للعمل، وليس مدنا أساسية. لأنه علينا التفكير بكيفية حفاظ الراتب على قيمته، أنا اخترت منطقة أبها، على الرغم من الأخبار حول الخطر الموجود بسبب قصف مطارها من قبل ميليشيا الحوثيين. أطباء آخرون اختاروا منطقة “جيزان”، ولم يعد هناك من يفكر بالعمل في المدن الأساسية مثل جدة. ثم هناك عامل وجود أطباء سوريين يقبلون برواتب متدنية، خفض من إقبال الخليجيين على دفع رواتب عالية للبنانيين، ولا سيما لخريجي الجامعة اللبنانية. حتى إن البورد الأردني صار يقدم على تصنيف بورد الجامعة اللبنانية. قطر شروطها أقل، فلا امتحانات للاختصاصي، لكن المنافسة قوية بين الأطباء. ثم إن السعودية تعطي سكنا وتعويض مواصلات، وشروط العمل في منطقة نائية أفضل تمكنني من السفر إلى لبنان ذهابا وإيابا كل شهرين، وبالإمكان التوفير أكثر من الراتب، علما أن هناك أطباء لبنانيين أصحاب كفاءة عالية ومشهورين جدا قبلوا بشروط عمل متدنية، فقط للهرب من الواقع الحالي في لبنان”.

وحسب لينا “فإن القطاع الصحي قد يصمد، إذ أن البعض متكل على الفوضى الحاصلة في البلد، هناك أمور لم تتأثر، ربما لأن الأسعار بالنسبة إلى الدولار صارت منخفضة، قد تجعل السياحة الصحية والتجميلية رخيصة، لا يمكن الجزم والمراهنة على هذا الموضوع لأنه سياسي بالدرجة الأولى”. ولا يغيب عنها الإشارة إلى أن الكثير من الأطباء ينوون السفر حاليا، ومن لا يستطيع اليوم لأسباب عائلية قاهرة، بالتأكيد سيحاول غدا. هناك تشتت عائلي وحكايا في البيوت لا يمكن التعبير عنها إلا بالقول “الله يجازي اللي كان السبب”.

تنتقد لينا عمل نقابة أطباء الأسنان، مشيرة إلى أنها “نقابة صورية مثل باقي نقابات المهن الحرة، المهم ارتداء بابيون وليس كرافات وتأمين احتكارات للشركات. وما قيل عن إنجاز دعم البنج لا معنى له، فأنا شخصيا لا أستخدم البنج المدعوم في عيادتي، ولو أردت شراءه لا أجده في السوق، ونوعيته سيئة، ثم ما قيمة تأمين البنج إذا كان الطبيب يستخدم 500 مادة في علاج المرضى ولا أحد يهتم بالعمل على تأمينها”.

هجرة الأطباء مهولة

يعيد الدكتور مناف.ش الصعوبات التي يواجهها طبيب الأسنان في لبنان إلى “الانهيار الاقتصادي الذي حصل في البلد، فهو الأساس، وتدريجيا صارت الحوادث الأمنية تزداد، مما تسبب بحال من القلق، إذا الموضوع اقتصادي أولا وفلتان أمني ثانيا، بالإضافة إلى عدم وجود رؤية واضحة حول المستقبل، إلى أين نحن ذاهبون؟ الواضح أن الازمة ليست قصيرة، بل طويلة الأمد وبالتالي هذا هو الدافع الأكبر لهجرة الأطباء”. ويعرب عن حزنه لأن لبنان يفرغ من نخبه الطبية “لقد وضعوهم في مكان لم يعد بإمكانهم فيه عمل شيء، طوابير بنزين غاز ومازوت وخبز وغيرها وغيرها من الأزمات ومشاكل على المحطات، ينظر الطبيب حوله فلا يجد مفرا من خيار الرحيل”.

ولا يخفي أن “أرقام هجرة الأطباء مهولة، وشروط العودة غير متوافرة، ولا أحد يعمل على تأمين ما يلزم لتلافي الاستنزاف الحاصل”. وبرأيه فالوضع الحالي يتجاوز إمكانية معالجته من قبل نقابة أطباء الاسنان لأنه يتخطى دورها، موضحا: “لقد طالبت النقابة بدعم مادي للمواد الطبية التي يتم استخدامها وأن يعطى دولار كاش للطبيب، لكن وضع البلد لا يسمح، موضوع الأكل والشرب أهم بالنسبة للطبيب، هكذا أمور لا تعالج مباشرة من النقابة، فدورها محدود في إيقاف الانهيار، ولا تستطيع تأمين الكهرباء أو المحروقات، القطاع الصحي تأذى كثيرا في ظل الأزمة، والبلد منهار والأوضاع الإنسانية تدفع الناس إلى الهجرة والبحث عن حلول فردية لتجاوز الأزمة”.

على النقابة تفعيل لجنة التعريفات

تقول عضو مجلس نقابة أطباء الأسنان الدكتورة إميلي حايك، المرشحة لمنصب النقيب في بيروت، أن “هناك صعوبات كثيرة يواجهها القطاع في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، أهمها صعوبة الاستمرار بالمهنة، إذ أن مواد طب الأسنان هي مواد طبية لم تكن في أي وقت من الأوقات مدعومة، كلها مواد مستوردة من الخارج، تسعّر على الدولار حسب سعر صرف السوق السوداء، والطبيب يدفع دائما كلفة هذه المواد، ما عدا كلفة الصيانة بالعيادة لكل التجهيزات، وتضاف لها تكاليف تأثير جائحة كورونا التي زادت من حجم الكلفة، أطباء الاسنان هم أكثر عرضة من غيرهم من الأطر الطبية، وهم في دائرة الخطر. ولا بد من تدابير احترازية مكلفة، أي أن الكلفة زادت على الطبيب، وبالمقابل فإن قدرة المواطن والمريض لاقتناء الدواء أو الطبابة تراجعت”.

وتوضح أن “الأطباء حتى يسايروا مرضاهم ويستطيعوا الاستمرار معهم لم يسعّروا على الغالي، على الرغم من أنهم يشترون المواد على سعر عالٍ حتى يستمروا بالعمل”. وتشدد على أنه “مع الوقت برزت خطورة على استمرارية عمل طبيب الاسنان، فهو خلال بداية الأزمة ربما كانت تتوافر لديه بعض المواد مخزنة لاستخدامها في عمله، لكن وصل اليوم إلى وقت صرف فيه كل تلك المواد، وأصبح يشتريها بسعر عال، وبالمقابل يطرح السؤال: كيف سيسعّر للمريض؟”.

وتتابع: “من هنا اضطر عدد كبير من الأطباء إلى الهجرة بحثا عن عمل للعيش بكرامة”. وتوضح أن “مادة البنج هي الوحيدة المدعومة في قطاع طب الأسنان ومصنفة كدواء من قبل وزارة الصحة، لكن منذ أشهر صارت مقطوعة من قبل الوكلاء، ومثلها مثل كل الأدوية الأخرى، والأطباء الآن يقومون بتدبير الأمور بين بعضهم أي يستعيرون المواد، أو يضطرون للشراء من السوق السوداء بأسعار مرتفعة”.

وحول دور النقابة تؤكد حايك: “اليوم الأطباء بحاجة إلى نقابة تقف إلى جانبهم، أقله عليها تفعيل لجنة التعريفات الطبية ووضع صيغة للتعريفات في ظل تلاعب سعر صرف الدولار، ومطالبة المسؤولين المعنيين بدعم قطاع طب الأسنان ورفع صوت الأطباء والتعبير عن معاناتهم لإيجاد حلول في ظل غلاء المواد الطبية وانقطاعها أيضا من السوق”. وتختم: “أطباء الاسنان بحاجة لنقابة تقف إلى جانبهم بكل المواضيع الاجتماعية في ظل الظرف الاقتصادي الصعب”.

… ولكن هل من يسمع صرخة هؤلاء الأطباء الذين يدورون في حلقات مفرغة، نتيجة سياسات القهر والذل التي يعتمدها حكام البلد؟

شارك المقال