استقلال بلا سيادة!

يارا المصري

“عام 1943 أُعلِن استقلال لبنان عن فرنسا بعد فترة انتداب استمرت 23 عاماً، وعام 1946 احتفل لبنان بجلاء آخر جندي فرنسي عن أراضيه”. لقد اعتدنا قراءة تلك الجملة في الصفحة الأخيرة من كتب التاريخ واعتدنا الاحتفال بهذه الذكرى في التاريخ عينه من كل عام، باعتبارها ذكرى وطنية لنيل لبنان استقلاله واستعادة سيادته التي سلبها الاحتلال. اليوم، وبعد 78 عاما على الإستقلال أصبح الاحتفال به أشبه بنكتة أو استعراض بلا فائدة، إذ ينقسم الشعب قسمين؛ قسم يتساءل باستهزاءٍ “عن أي استقلال تتحدثون؟” والقسم الآخر يتحسّر على فترة الإحتلال باعتبارها أفضل مما نعيشه اليوم لا بل أصبح البعض يطالب بوضع لبنان مجدداً تحت وصاية دولية فلربما تتمكن دولة أخرى من ضبط الوضع الداخلي، أو قد تكون دولة الإحتلال أكثر رحمةً ومسؤولية ممن يحكمون لبنان.

لقد ساهم التعدد الطائفي في لبنان في تعقيد الوضع السياسي الداخلي، فقد كان تاريخه حافلاً بالصراعات والحروب التي اتخذت منحى طائفياً، وعززتها الأحزاب السياسية من جهة والحروب الإقليمية من جهة أخرى. فمنذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير وحتى اليوم، لم يعش لبنان استقراراً، من الناحية السياسية، على الإطلاق، وذلك نتيجة فشل كل الطرق لضبط الوضع الداخلي وتوحيد القرار الشعبي وتعزيز المواطنية في بلد يحتوي 18 طائفة ومذهباً. فحتى في فترة الاحتلال الفرنسي، لم يتّحد اللبنانيون، بل انقسم الشعب إلى قسم مؤيد للاحتلال الفرنسي وهم المسيحيون الذين وجدوا في فرنسا الحامية لوجودهم، وقسم معارض ومقاوم للاحتلال وهم المسلمون الذين طالبوا بالإنضمام إلى دولة عربية برئاسة الأمير فيصل تضم سوريا الكبرى، وذلك حفاظاً على استمراريتهم ووجودهم.

وقد تفجر الوضع أثناء الحرب الأهلية الأولى، وتوضحت الصورة الحقيقية للمجتمع اللبناني، بحيث أدى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، في إحداث انقسام في الداخل اللبناني، لتندلع على إثرها حرب أهلية داخلية بين مسيحيين مؤيدين للعلاقات مع الغرب ومسلمين مؤيدين للمجموعات العربية واليسارية. وقد كانت تلك الحرب الجزء الأول من الصراع الطائفي في لبنان، استكمل في جزء ثانٍ في حرب 1975، مهّد لها اتفاق القاهرة الذي انقسم على اثره المجتمع اللبناني إلى جزء معارض للوجود الفلسطيني، وجزء آخر داعم لمنظمة التحرير. وكانت تلك الحرب افتتاحية لحقبة جديدة من الاحتلالات المتوالية.

بناءً على ذلك، فإن تاريخ الصراعات والحروب في لبنان اتخذت شكلاً طائفياً واحداً ففي كل ما مر به لبنان، لم يسبق أن اتّحد الشعب اللبناني على أي قرار وطني. ويعود ذلك لسبب أساسي ألا وهو النظام السياسي اللبناني. منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير ثمة انقسام حاد في الداخل، إذ اعتبر المسلمون الحكم العثماني خادماً لمصالحهم الطائفية، واعتبر المسيحيون الانتداب الفرنسي ضامناً وحامياً لوجودهم، مما يعني أن الطائفية وجدت قبل وجود الدولة. وقد عزز النظام السياسي الانقسام والطائفية بدلًا من السعي إلى حلها، وقد تأسست الدولة على مبدأ الميثاق الوطني 1943 الذي وضع لكل طائفة منصباً رئاسياً الأمر الذي ساهم مع مرور الوقت في توسيع الشرخ الطائفي وزيادة حدة الصراع الداخلي بعدما أصبح الرئيس ممثلاً لطائفة لا لشعب.

بعد عام 2006، ظهر انقسام جديد في المشهد السياسي اللبناني بعدما برز كل من تحالف 14 آذار و8 آذار، لتصبح تلك المعادلة الأوضح لطبيعة الواقع السياسي، وليتبعها حقبة جديدة متمثلة في الهيمنة الإيرانية على الشأن اللبناني خاصة بعد أحداث 7 أيار وما تبعها من توترات وتحالفات. وما زالت تلك المعادلة ثابتة حتى اليوم على الرغم من تبدل طبيعة العلاقة بين الأحزاب الممثلة لكل من تحالف 14 و8 آذار، بحيث تنقسم الآراء حول الهيمنة الإيرانية المتمثلة في “حزب الله” ووجوده العسكري، فيؤيد البعض وجوده ومعتقداته الداعية إلى التوجه شرقاً، مقابل جزء آخر معارض له ومؤيد لتفكيك الميليشيا وتسليم سلاحها غير الشرعي.

انطلاقاً مما سبق، منذ ما بعد استقلال لبنان عام 1943، لم يعش لبنان استقلالاً حقيقياً على الإطلاق، ويعود ذلك لسببين أساسيين، الطائفية التي كرستها الأحزاب، وغياب مفهوم الدولة، مما يعني أنه نتيجةً لغياب الدولة وغياب كل المساعي لتأسيس دولة بمعناها الصحيح، اضطلعت الأحزاب بدور الدولة للطائفة التي تمثلها. فأصبح الولاء للحزب المدعوم أو المموّل من الدولة الخارجية، وأصبح القرار السياسي الداخلي في لبنان مبنياً على التحالفات والتسويات والاتفاقات الخارجية. فمثلاً اليوم علاقة لبنان مع دول الخليج أصبحت إلى حد ما مبنيةً على العلاقة الخليجية – الإيرانية، وواقع “حزب الله” وهيمنته على الشأن السياسي اللبناني أصبح مبنياً على نتائج محادثات فيينا. لذلك، يمكننا القول إن لبنان بلد مسلوب السيادة، وذلك نتيجة التقسيم الداخلي مع غياب الدولة والمواطنة، ليحتفل لبنان بعد 78عاماً بعيد الاستقلال بلا سيادة.

شارك المقال