بين قصور السلطة وقلعة راشيا… فارق شاسع

سامي كميل طانيوس

بين انقسام رجال السياسة الذين يرقصون اليوم على جثة الوطن، ورجال الدولة الذين انتزعوا الاستقلال عام 1943 فارقٌ شاسع. وبين بعبدا وعين التينة والسرايا الحكومية من جهة، وقلعة راشيا من جهة أخرى فارقٌ شاسعٌ أيضاً. وبين جهنم التي نعيشها اليوم والازدهار الذي عرفه لبنان في الفترة التي تلت استقلاله فارقٌ شاسعٌ شاسع.

هوة كبيرة ما بين لبنان الـ43 ولبنان اليوم. هوّةٌ توسّعها يوماً عن يومٍ ولاءات القيادات اللبنانية للخارج والتي جعلت من لبنان دولة مستقلة بالاسم فقط لا غير؛ دولة لديها كلّ مقومات الدول من أرضٍ وشعبٍ ودستورٍ وجيشٍ ونظامِ حكم، لكن لا قرار مستقلَّا لديها. هي تنفذ إملاءات الخارج خدمةً لمصلحة كل دول العالم “من السند للهند” إلا مصلحة لبنان وحده!

لم يكن لبنان دوماً دولة ذات قرار مستقل مئة في المئة، فهو يتأثر، بحكم موقعه الجغرافي وسط منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية، بالصراعات التي تدور في الإقليم من فلسطين إلى سوريا والعراق والأردن ومصر… وهذا ما يثبته تاريخ لبنان الحديث؛ فقد كان لوعد بلفور مثلاً تأثير كبير في لبنان، ولم توفر الموجة الناصرية إحداث الشرخ بين طوائفه بخاصة بعد توقيع اتفاق القاهرة، وهكذا اتفاق الطائف جاء أيضاً بمبادرة من الخارج، واستقلال لبنان نفسه كان أحد أسبابه الضغوط البريطانية على فرنسا والواقع العسكري الفرنسي في خضم الحرب العالمية الثانية…

كلّ ما سبق هو صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن لبنان تميّز برجال دولة حقيقيين كان لهم الجرأة والشجاعة أن يتحدوا كلّ الصعاب ويحققوا مصلحة لبنان، ولبنان وحده. لا شك أن بعضا من رجال الدولة هؤلاء أتوا بغطاء خارجي لكنهم، وبعد ما تقلدوا السلطة، نزعوا عنهم هذا الغطاء واكتسوا بالعلم اللبناني، اللبناني فقط، وحافظوا بالتالي على استقلال لبنان.

أما اليوم، فقد انعدم وجود رجال الدولة الحقيقيين باستثناء القلة القليلة. والفريق الحاكم المتمثل بالأكثرية النيابية غير آبهٍ إلا بمصالحه الشخصية، يبرع في المحاضرة بالعفة علناً ويمرر الصفقات على حساب لبنان ومصلحة الدولة العليا من تحت الطاولة وبالاتفاق مع خصومه العلنيين. هذا الفريق الحاكم، بتحويله لبنان إلى جهنّم فرّط بمصالح اللبنانيين وبأمنهم وسلامتهم وكرامتهم وحقوقهم، وبتبعيته للمحاور الخارجية فرّط باستقلال لبنان وخرّب علاقاته الديبلوماسية مع محيطه العربي وجعله ورقة تفاوض بين الدول والمحاور.

كلّ هذا يحتّم علينا أن نسأل سؤالاً أساسياً ووجودياً بالنسبة إلى الكيان اللبناني الذي أرسيَ مع دولة لبنان الكبير وتحقق فعلياً مع استقلال الـ43: أين لبنان اليوم من مفهوم الاستقلال؟

استقلال بلدٍ ما هو تحرره من الجيوش الأجنبية أولاً ومن الوصاية الخارجية عليه وعلى قراره السياسي والاستراتيجي ثانياً. هذا ما تحقق مع إعلان استقلال لبنان، فأعلن لبنان الشعب والدولة وقتها تحررها من حكم الفرنسيين ومن وصاية سلطة الانتداب على بلاد الأرز وتم بعدها إجلاء الجيوش الأجنبية عن كافة الأراضي اللبنانية. أما اليوم، فلبنان تحت الوصاية الإيرانية بواسطة وكلائها الذين يتحكمون بالسياسات الداخلية والخارجية وحتى الأمنية والعسكرية. أكثر من ذلك، لبنان اليوم ليس محرراً من الجيوش الأجنبية، فالسلاح غير الشرعي الذي يمتلكه حزب الله والذي يأتمر من الخارج استخدم مراراً في الداخل لتحقيق الرغبات الإيرانية وهذا ما فرّط بمفهوم الاستقلال الأساسي.

والاستقلال بمفهومه الوجداني هو التحرر السياسي والثقافي والفكري من التبعية والولاء لغير الوطن. ففي عام 1943 تخلى المسيحيون عن حماية فرنسا والمسلمون عن رغبة الاتحاد مع سوريا وشكّلوا بفكرهم المتحرر والوطني حجر زاوية لنيل لبنان استقلاله. أمّا اليوم فكلّ من في السلطة تقريباً تنتدبه جهة أو دولة خارجية ليسعى لتحقيق مصالحها بعيداً من ولائه للوطن، أما الفكر الوطني المتحرر فقد ابتلعته الطائفية وعادت إلى الأذهان مشاريع التقسيم ومنطق “منطقتنا ومنطقتهم”…

لبنان، إذاً، ليس دولة ذات قرار مستقل: السلطة فيه مصادرة من المحور الذي زجّ فيه، وقرار السلم والحرب على أراضيه في قبضة سلاح خارج عن مؤسسات الدولة. أما السيادة، فهي غائبة تماماً، وتغيب معها شمس الاستقلال فيسود حينها ظلام التبعية والولاء للخارج.

الاستقلال ليس ذكرى فحسب، بل هو مبدأ تبنى عليه الأوطان وتتحررّ إلا من إرادتها الحرة ومصالح شعبها. لبنان تحرّر من العثماني والفرنسي والاسرائيلي والفلسطيني والسوري… وإن أراد الشعب أن يتحرر وطنه من الوصاية الخارجية عليه فلا بدّ أن يستجيب القدر!

شارك المقال