“تجميع الخردة”… كنز ثمين وأسلوب حياة مفقود

كمال دمج
كمال دمج

لم تكن قناعة اللبنانيين بواقعهم العام قناعة طامحٍ تتطور مع تغيُّر العوامل وتبدّل المعادلات ومقتضيات الحياة، بل كانت وما زالت مبدئياً ذات طابع تأقلميٍّ سلبي أشبه بالرضوخ والتقوقع خلف المخاوف. لكن لا شيء بالمطلق، فقد يكون التأقلم بمكان ما نمط تعافٍ ونهوض جزئي وذا أثر، أكبر بكثير من الظاهر، على المجتمع والدولة ككل.

فعلى قاعدة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، استغلَّ اللبنانيون، وكذلك المقيمون، ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة وتأثيره في مجمل الأوضاع وكذلك في كل ما هو متبادل ليجعلوا من “الخردة” أنفع أشكال التبادل وأكثرها ربحاً وأحلاها شراكة وأكثرها رواجاً بين العامة، وبخاصة في الأرياف، من خلال تجميعها وفرزها وبيعها لكسب “المال الحلال” بالسهل الممتنع وبما يتماشى مع متطلبات المرحلة المعيشية والاقتصادية الأصعب تاريخياً.

فبعد ارتفاع أسعار المعادن والمواد الصناعية (حديد، نحاس، تنك، بلاستيك، كرتون…)، انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة “تجميع الخردة” من حاويات النفايات ومن على أرصفة الطرقات والحقول وكأننا أمام “تعزيلة” للبلد، ولم تعد المسألة محصورة بفئة معينة من الناس، بل باتت تشمل غالبية المواطنين كُلُّ من مطبخه وسيارته ومكان عمله بعملية أشبه بالفرز من المصدر، ليستفيد منها طلاب جامعات في تأمين حاجياتهم وكبار سنٍّ مغلوبون ومحرومون في ضمان كَبرتهم وأطفال كتب عليهم تحمل جزء من مسؤولية عائلاتهم ومصاريف دراستهم، مغتنمين كل ما يقع بين أيديهم من هذه المخلَّفات الثمينة، ومنتقمين من الظروف، ومناضلين بكرامة في سبيل البقاء، مواسين أنفسهم أنَّ “الشغل مش عيب” وأنَّ مردود الخردة أكبر من مردود الكثير من الأعمال حيث يزيد سعر طن الحديد على 600 دولار، وطن التنك على 400 دولار أميركي.

فبعد اشتداد الأزمة، باتت عائلات كثيرة تعتمد “الخردة” مورداً أساسياً لها، مساهمةً وكل من يعمل في هذه المهنة – من دون دراية أو إرادة ربما – في تخفيف الأعباء والملوثات عن بيئة لبنان المنهكة وعن قطاع النفايات الغارق بالفساد، فمعظم ما يجمّع في “البورة” يذهب إما لإعادة التدوير وإما للتصدير لاستخدامه في مجالات عدّة، مما يساهم أيضاً في درّ أموال كثيرة للمرافئ المخزِّنة والمصدِّرة، ومنها مرفآا طرابلس وصيدا.

لكن، وكما أن لكل شيء إيجابيات وسلبيات، كذلك لهذه المهنة، فقد كثرت في الآونة الأخيرة سرقة الأسلاك الكهربائية والمحولات والمحطات وأغطية الصرف الصحي بهدف بيعها مما سبب مشكلات عديدة، وهذا يعود بالطبع لعدم إيلاء المهنة الاهتمام الكافي وعدم وضعها ضمن إطار قانوني سليم وإطار علمي وتربوي وتنموي واقتصادي شامل، مما يضيِّع فرصة تكوين ذهنية تعتمد هذا النشاط أسلوب حياة، عبر الفرز من المصدر.

لذلك، ومع اشتداد الأزمات التي كان يمكن تفاديها باليقظة وسلطة الشعب على مؤسساته، لم يعد مسموحاً للشعب اللبناني في ظل ما يتمتع به من وعي أن يتأقلم آنياً مع صعوبات شهدها من قبل وتعود عليه الآن، بسبب الاستهتار، بصورة أشد وأخطر. على اللبنانيين جميعاً أن يجعلوا المرحلة الحالية أساس نهوضهم نحو حضارة تتماشى مع ما وصلتْ إليه البشرية من تحضُّر وتليق بـ “لبنان الكبير”.

شارك المقال