ثقافة الانتماء الوطني في فكر السيد محمد حسن الأمين

د. سيلفا بلوط

تتبدّى أهمية قراءة فكر السيد محمد حسن الأمين التنويري في كونها تغني قارئها ليس على مستوى الثقافة الدينية فحسب، وإنما أيضاً على مستوى الثقافة الوطنية التي بتنا نفتقدها، أكثر فأكثر، في مجتمعنا اللبناني. يطلعنا فكر العلامة الأمين على وجود العلاقة الوثيقة بين ثقافة الاعتدال التي نادى بها ومنحها مساحة واسعة من فكره من جهة، وبين ترسيخ الإنتماء الوطني الذي احتلّ حيزاً من رسالته التنويرية من جهة أخرى.

ولم تكن دعوته إلى الاعتدال إلا نتاج مناداته باعطاء حرية المعتقد والحق في الاختلاف شرعيتهما، بحيث اعتبر أن “أي مجتمع أفراده غير أحرار لا يمكن أن يكون مبدعاً ومتقدّماً، وسيبقى يدور في دائرة مغلقة يجترّ فيها الأفكار السائدة والقيم العامة التي يقدّسها المجتمع”. ومن هذا المنطلق، أعطى العلامة الأمين لحرية المعتقد دوراً في تقدّم المجتمعات الإسلامية والنهوض بها. ويؤسّس الاعتدال الذي تجذّره شرعية التعددية “المعتقدية” لثقافة لاعنفيّة تتجلّى ليس على مستوى الحياة “المعتقديّة” فحسب، وإنما السلوكيّة أيضاً. ومن الطبيعي، أيضاً، أن يترجم سلوك الفرد معتقده وطبيعة أفكاره. بالنسبة إلى الحياة “المعتقدية”، اعتبر العلامة الأمين أن “غياب دور المؤسسات الدينية ورجالها في بث روح الاعتدال يسهم في تعزيز نزعة التمذهب…”، بمعنى أنه يأخذ الفرد إلى التعصّب. وفي هذه الحال، يظهر العنف في سلوكه ليترجم هذه النزعة أو هذا التعصّب، وهذا ما أشار إليه في قوله: “إن تمجيد البندقية أقام مرحلة من أسوأ المراحل التي مرّ بها العالم، وحوّل العقل إلى خادم للبندقية”. كما حارب العلامة الأمين الفتنة التي تتغذّى عبر الاصطفافات المذهبية وتتخذ منحى عملانياً عنفياً يؤدّي إلى زعزعة استقرار المجتمع على المستويات كافة الثقافية والاجتماعية وحتى الأمنيّة… بالإضافة إلى إضعاف المواطنة وتقويض مؤسسات الدولة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن العلامة الأمين برز ليس كرجل دين فحسب، وإنما نجح أيضاً في أن يكون رجل دولة نادى بالاعتدال ونبذ التعصّب وتكريس الانتماء الوطني. وترجم ذلك في كتاباته المتنوعة التي عكست غزارة أفكاره التجددية.

وإذا ما قاربنا ثقافة الإنتماء الوطني، التي نادى بها العلامة الأمين، نلاحظ أنها تدعم استقرار الحياة النفسية للفرد بالإضافة إلى حياته الإجتماعية. بالنسبة إلى حياته النفسية، من المعروف أن تعزيز المواطنية يسهم في دعم الاستقرار النفسيّ باعتباره يعيد للعقل دوره في رؤية الأمور بعقلانية والتحكّم السليم بها. وفي ما يتعلق بحياة الفرد الاجتماعية، فإن ثقافة الإنتماء الوطني تمهّد لثقافة لاعنفية، كما أشرنا، تسهم في الإستقرار الإجتماعي. ومما لا شكّ فيه أن الإستقرار النفسيّ للفرد ينعكس، حكماً، على استقرار حياته الإجتماعية.

خلاصة القول، قدّم العلامة الأمين رؤية لمسار عقلاني وتنويريّ يبدأ من أن الحق في حرية المعتقد والإعتراف بالتعددية الفكرية ينبذ التمذهب ويؤسّس للاعتدال الذي يكرّس الثقافة اللاعنفية والجوّ السلميّ، مما يقوّي الانتماء الوطني الذي يعبّد الطريق أمام إقامة دولة منيعة وقادرة على حماية مواطنيها.

أخيراً، أسهم فكر العلامة الأمين التنويري، مع غيره من رجال الدين التنويريّين، في استعادة الوعي لدوره الرئيس في فهم الحياة. وأغنى الفكر الإسلاميّ بمبادئ وأفكار تؤسس لقيام مجتمعات إسلامية وعربية أيضاً قادرة على “التوهّج”، إن صحّ التعبير، على المستويات كافة، الثقافيّة والإجتماعية والإقتصادية.

شارك المقال