“كلن يا جنوب… باعوك الكلام”

كمال دمج
كمال دمج

في لحظة تلاقي مصالح عالمية مرفوقة بوجود مخاطر حقيقية على كيانات وقطاعات كبرى نتيجة الصراع الأوكراني – الروسي، ونتيجة عوامل داخلية عدة، يدفع لبنان جزءاً من أرضه ثمن موقعه الجيوسياسي الاستراتيجي في الشرق الأوسط عبر “اليد المبخوشة” و”العقول الملطوشة” لأزلام السلطة فيه بحيث أفقدوا الدولة اللبنانية، عبر ممارساتهم، كل أركانها وجعلوها مرتعاً لقوى الأمر الواقع المحلية والدولية.

فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما أنتجه من آثار خطيرة على أمن الطاقة والغذاء عالمياً، وخصوصاً في أوروبا، لعبت الولايات المتحدة دور المنقذ، من خلال لبنان وأرضه وثرواته عبر منح الوافر لاسرائيل التي تتمتع بالجهوزية التامة لتزويد “القارة العجوز” عاجلاً بمصادر الطاقة اللازمة، في لحظة تؤمّن نسبة كبيرة من الاستقرار للكيان الاسرائيلي، تنعكس بالفائدة الاقتصادية على فرنسا من خلال شركة “توتال”، وتفتح أبواب الجنة أمام إيران بحيث تعتبر إتفاقية ترسيم الحدود اللبنانية البحرية جنوباً بمثابة مفعول واضح لـ “ميني إتفاق نووي” كان عرّابه “حزب الله”.

وفي تفاصيل الترسيم الحاصل بين “ميليشيات السلطة اللبنانية” وحكومة الكيان الاسرائيلي، فإنَّ خط الحدود بين الطرفين يعتبر وفق إحداثيات الاتفاق تراجعاً كبيراً عن حقوق لبنان بحيث لم يحصل حتَّى على كامل مكاسب الخط ٢٣، بل إلى ما دونه إلى ما يقارب “هوف +”، إضافة إلى تخلي الاتفاق عن “رأس الناقورة” كنقطة إنطلاق قانونية وفق القانون الدولي، ليبدأ من نقطة بحرية أعطتْ تأثيراً مباشراً لخط الطوافات المعتمد من إسرائيل كنتيجة مباشرة لامتناع الرئيس ميشال عون عن توقيع المرسوم رقم ٦٤٣٣ وتخليه عن الخط ٢٩ بعد أن كان يوجِّه الوفد المفاوض ويحمِّله رسالة إصرار بأنَّ “الخط ٢٩ هو خط ميشال عون… تمسكوا به وامشوا فيه بدون تأثير لصخرة (تخليت) عليه”.

وفي الاطار نفسه، يمنح الاتفاق كامل حقل “كاريش” المستكشَف للكيان الاسرائيلي، وفي المقابل يحصل لبنان على حقل “قانا” المبني على التكهنات، والذي يعتبر أصلاً، وفقاً للخرائط، غير موجود أساساً ويشكل إمتداداً لمنطقة جيولوجية واحدة تتمثل بـ “الحقل ٧٢” الاسرائيلي، عدا عمّا حصلت عليه إسرائيل من تنازل لبناني بقدر حصة ١٧٪ كتعويض (لا نعرف عن أي ضرر) مقابل ما أسماه الاتفاق بـ “حقوقها في أي ودائع مفترضة في حقل قانا”، ما يجعلها شريكاً أساسياً في الانتاج، وصاحبة قرار إستثماري لديها سلطة الموافقة على الشركة المشغِّلة لأي جزء من الأجزاء الجنوبية للحقل المذكور، ما يضعها وفق أحكام هذه الاتفاقية موضع الشريك للبنان تقوم علاقتهما على مَثَل رائج يقول: “يلي إلي إلي… ويلي إلك إلي وإلك”، وهذا ما حصلت عليه و”فوقه حبة مسك”، ما قد يؤثِّر مستقبلاً على مرتكزات لبنان بشأن نقاط أساسية في عملية الترسيم البَرّي.

إنَّ هذا التوافق الحاصل بمساعي الوسيط الأميركي، أقرَّته حكومة الكيان الاسرائيلي بالغالبية، ووافقت عليه بطريقة غير دستورية الرئاسات اللبنانية. ففي حين كان الرئيس عون يدافع عن صلاحياته كرئيس للجمهورية في عملية تشكيل الوفد المفاوض وتوجيهه، تذرَّع بنص المادة ٥٢ من الدستور التي تمنحه حق التفاوض وإبرام المعاهدات الدولية، إلاَّ أنَّه وبعد التوصل إلى الاتفاق بصيغته النهائية وكل ما فيه من تنازلات واختزال للأراضي اللبنانية لصالح التسوية الدولية الحاصلة، ما عاد يعتبره معاهدة أو إتفاقية دولية تحكم تفاصيل مشروعيته المادة ٥٢ من الدستور التي تفرض موافقة مجلس النواب على تلك التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والتي لا يجوز فسخها سنة فسنة، وذلك لتمريره بألغامه من دون عقبات مفترضة تحت قبة البرلمان.

وعليه، إنَّ السياسة فنٌّ وإنَّ “الجنون فنون” أدَّى بالأمين العام لـ “حزب الله” الى أن يطلق تصريحه الصارخ بعد الترسيم بأن “لا تهديد ولا شعارات الآن لاسرائيل… الليلة فرح وزقيف… نريد أكل العنب ولا نريد إستعراض العضلات” وكأَّنه يناقض نفسه بنفسه، ويؤكِّد المؤكَّد أن كل ما كان يقوم به الحزب منذ زمن ليس إلاَّ شعارات وإستعراض عضلات قائم على عقيدة مزيَّفة تقتضيها المصلحة الايرانية ومشروع ولاية الفقيه.

شارك المقال