عون من الفراغ والى الفراغ يعود

كمال دمج
كمال دمج

تنتهي اليوم الولاية الدستورية لرئاسة الجمهورية بعد أن تولاها ميشال عون منذ ٣١ تشرين الأول ٢٠١٦، ولا تنتهي معها تلك “اللعنة” التي استولدها قسمه الزَّائف على دستور الأُمَّة فأنتجت شرّاً مطلقاً وحقداً تملَّكَ مفاصل الدولة وكيانها المؤسساتي والقانوني والمجتمعي، وأطبق عليها فجعلها رهينة أيِّ خَلَلٍ، داخلي أو خارجي، يطيح بإمكان إستمراره ككيان.

فكيف تعامل ميشال عون مع الدستور ومؤسساته طوال ولايته الرئاسية، خصوصاً وأنَّه كان من أشدّ المعارضين لاتفاق الطائف؟

نتيجة حقده القديم على إتفاق الطائف ونتيجة ممارساته طيلة ولايته، ثبت أن أحد أسمى أهداف عون من التربّع على عرش “بعبدا” مجدداً بعد أن فَرَّ منها هارباً، هو إسقاط إتفاق الطائف وإرساء النظام الرئاسي أو أي نظام آخر يمنح رئيس الجمهورية “الماروني” سلطة ملكية مطلقة تخوِّله السيطرة على القرار الحكومي وعلى الرئاسة الثالثة في البلاد، وهذا ما حاول فرضه أصلاً بحروبه العبثية قديماً.

١- عون وتشكيل الحكومات

حرص عون منذ توليه رئاسة الجمهورية على خلق “هبرجة” مسيحية قائمة على الحقوق المسلوبة للطائفة والمتمثلة بصلاحيات رئيس الجمهورية التي حسب اعتباره جُيِّرَتْ لصالح رئاسة الحكومة والحكومة مجتمعة، فعمل دائماً على تحجيم هذه المؤسسة الدستورية وخلق العراقيل أمام سير عملها في سبيل فرض ما يريد، حتَّى حقَّقَ في نهاية عهده رقماً قياسياً بأن أمضى نصف ولايته تقريباً (ألف يوم) في ظل حكومات تصريف أعمال أرستْ عدم الاستقرار وحتَّى عدم الاستمرارية في الحكم ولا في تحقيق السياسات ما أوصل البلد إقتصادياً وسياسياً إلى ما هو عليه اليوم.

لقد إتَّبع ميشال عون مبدأ “التأليف قبل التكليف” مستخدماً ورقة الامتناع عن الدعوة الى استشارات نيابية ملزمة، ليكون بذلك قد انقلب على النظام البرلماني وعلى حق النواب المنتخبين في ممارسة أعمالهم عبر إيلاء نفسه صلاحية منح الثقة للحكومة قبل طرحها على البرلمان وقبل أن يقدّم رئيسها العتيد الطاعة، وعبر تطوير صلاحيته الادارية بإصدار مراسيمها بتنصيب نفسه شريكاً أساسياً في التشكيل، بحيث يجلس فيما بعد رئيس شرف للسلطة الاجرائية لا تبعة قانونية أو سياسية عليه وفق الدستور، في حين يلقي بما اتبعه من سياسة في اختيار الوزراء على عاتق رئيس الحكومة الذي يمثلهم ويتكلم بإسمهم ويكون مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء.

في حين أنَّ عون اليوم يخلق جواً رمادياً وأزمة دستورية حول نص المادة ٦٢ من الدستور التي تولي مجلس الوزراء، مهما كانت صيغته، صراحة صلاحيات رئيس الجمهورية في حال خلوّ سدة الرئاسة وذلك بهدف تأمين إستمرارية الحكم، ويهدف عون بذلك إلى منع الهيمنة السنية على الصلاحيات “المارونية” (وفق اعتباره المخالف لصيغة الحكم) لدرايته أن الفراغ هو سيّد كرسي بعبدا لوقت معيّن في ظل توازنات البرلمان الحالي.

٢ – عون والتشكيلات القضائية

في العام ٢٠٢٠، وبعد أن سار مشروع التشكيلات القضائية، الذي اعتُبر حينها نقلة نوعية في السلطة القضائية من حيث متانته والجرأة فيه، مساره القانوني بين مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل وفق نص المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي، بحيث يصبح المشروع كما صدر عن المجلس الأعلى بعد الاصرار عليه نهائياً وملزماً للجميع، ويجب أن يتخذ مساره الإجرائي الإداري وفق الصلاحية المقيَّدة لإتخاذ شكله القانوني. إلاَّ أنَّه وبعد إمضائه من وزير العدل والوزراء المختصين ومن رئيس الحكومة، إمتنع رئيس الجمهورية عن إصدار مرسومه مانحاً نفسه سلطة إستنسابية خلافاً للقانون، معتدياً على مبدأي الفصل بين السلطات وإستقلالية السلطة القضائية، وذلك لضمان بقاء أزلامه والعاملين في خدمته (وأبرزهم القاضية غادة عون) في مواقعهم التي استخدموها منصات تبلٍّ على الأشخاص والمراكز.

٣- عون ومجلس الخدمة المدنية

حرم ميشال عون الناجحين في إمتحانات مجلس الخدمة المدنية من تبوّؤ وظائفهم عبر حجب توقيعه عن مراسيمهم وذلك بحجة عدم توافر المناصفة بين المسلمين والمسيحيين الناجحين، هذه الحجّة التي حرَّمها الدستور في مواده.

لقد حرّف عون نصوص الدستور ومنح نفسه صلاحية تفسير المفسَّر أصلاً (المواد ٧ – ١٢ – ٩٥ من الدستور) لتبرير ممارساته الشعبوية الطائفية التي تتعارض بالكامل مع مقتضيات العيش المشترك والعدالة والمساواة بين اللبنانيين.

٤- عون وحاكمية مصرف لبنان

بعد أن تشكل رأي عام لبناني يضع اللوم الكامل على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مسألة الإنهيار الإقتصادي الحاصل، قرر عون، ومن خلفه “حزب الله” (الحالم بتدمير القطاع المصرفي لصالح مؤسسة القرض الحسن) وجبران باسيل، خوض معركة شعبوية بمحاولات إقالة رياض سلامة ومحاكمته فتظهرهم أمام الملأ على أنهم أرباب الإصلاح والتغيير وكشف الفاسدين، وذلك بمؤازرة من “قاضية البلاط” غادة عون وبمساندة جهاز أمن الدولة وعبر العمل الحثيث على تكليف شركة للتدقيق في حسابات مصرف لبنان لقاء تكاليف باهظة، علماً أنَّ مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي (التابع لفريقهم أساساً) لديه صلاحيات واسعة جداً أولاه إياها القانون وتحديداً المرسوم رقم ١٦٤٠٠ الصادر بتاريخ ٢٢/٥/١٩٦٤ الذي نصّت مواده على أن تبلغ قرارات المجلس المركزي إلى مفوض الحكومة بعد تسجيلها في سجل خاص، وله في إطار ذلك الحق في تعليق القرارات التي لا تتوافق مع القانون والأنظمة بعد إخطار الحاكم خطياً بالمخالفة وإرسال تقرير في هذا الشأن إلى وزير المال. كما أن للمفوض تفويضاً دائماً بفحص جميع سجلات البنك المركزي ووثائقه وأمواله وحساباته ويجوز له في أي وقت أن يطلب من مسؤولي البنك تزويده بأي معلومات أو إحصائيات قد تسهل مهمته، وعليه أن يضع برنامج رقابة سنوياً يخوّله القانون تنفيذه على حسابات البنك المركزي.

وعليه، لقد تولى عون رئاسة الجمهورية من رحم حكم الأمر الواقع وسلاح الحكم الإيراني وضرورة الحفاظ على أدنى مقتضيات بقاء الكيان اللبناني. لقد جاء عون من الفراغ وحَكَمَ عبر فراغ عقول مستشاريه وحاشيته وعبر فيض قلوبهم بالحقد والكراهية والطائفية، والآن يعود إلى فراغ الرابية السياسي بعد مسار من تدمير العلاقات والأرضية الشعبية، ليعود وينهض لبنان وليستمر هذا الكيان الخالد، لأن لا بقاء سوى للحق والحقيقة وكل باطل إلى زوال.

شارك المقال