هل يرضي تقلُّص عجز الحساب الجاري صندوق النقد؟

المحرر الاقتصادي

الأبواب أمام إعادة تفعيل الحكومة من أجل فرملة السقوط الحر لاقتصاد لبنان لا تزال موارِبة – كي لا نقول موصدة تماماً – في وقت يلتهم تدني سعر صرف الليرة الى مستويات كارثية والارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات وتوقع وصول التضخم الى معدلات غير مسبوقة، ما تبقى من أمل للبنانيين القلقين اليوم من محاولات تغيير هوية لبنان ونموذجه الاقتصادي ومن عدم قدرتهم على استعادة الرفاهية التي كانوا يعيشون فيها في السابق، وكذلك من استمرار تناقص محفظة مصرف لبنان من العملات الأجنبية التي كانت تشكل وسادة أمان لهم والتي وصلت إلى 13.3 مليار دولار في 15 تشرين الثاني الحالي (مستثناة من محفظته من سندات اليوروبوندز).

فالأزمة التي تسبب بها وزير الإعلام جورج قرداحي مع دول الخليج لا تزال تتفاقم، وتداعياتها الاقتصادية على اللبنانيين الى المزيد من الارتفاع. لكنها لم تدفع المسؤولين عن هذه الازمة الى التراجع عن تعنتهم رأفةً بأوجاع الناس. فيما المجتمع الدولي أشد حرصاً على إيجاد السبل لمساعدة اللبنانيين الذين باتوا في معظمهم مصنفين فقراء، ويناشد إعادة تفعيل الحكومة كي تتوصل الى إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي سيكون جوهرياً في وضع الاقتصاد على السكة الصحيحة.

بالأمس، أعلن مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، جهاد أزعور، أنه يأمل التوصل الى هذا الاتفاق “في أقرب وقت ممكن”. إنما وضع الاتفاق موضع التنفيذ يحتاج الى حكومة فاعلة وكاملة الصلاحيات يكون منوطاً بها عملية التوقيع. مع العلم هنا أن “تفاؤل” أزعور لا يعني أن الاتفاق سيكون قريباً جداً. بمعنى انه من المستبعد جداً التوصل اليه قبل الانتخابات النيابية المقبلة.

كما انه لا يخفى على أحد التعقيدات التي تسيطر على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي قد تؤدي الى احتمال فشل الاتفاق، كما يقول رئيس الأسواق السيادية والناشئة في مؤسسة “بلاك روك”، عامر البساط، والذي كان خبيراً اقتصادياً في الصندوق. بحسب البساط، فإن الصندوق سيتمسك باستدامة القدرة على تحمّل الدين التي ستتطلب بدورها إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة رسملة المصرف المركزي، وعدم الاكتفاء بالتوصل إلى اتفاق مع الدائنين. وسيطالب أيضًا بإصلاح هيكلي طموح للنظام المالي وبإصلاحات قطاعية وإدارية وتنظيمية من المستحيل على الأرجح تطبيقها قبل الانتخابات المرتقبة العام المقبل.

الحساب الجاري

من ضمن الشروط التي يطرحها صندوق النقد الدولي، تطبيق إصلاحات هيكلية وتصحيح مالي بما يسمح بخفض العجز في الحساب الجاري وتخفيف ارتباط الاقتصاد بتدفقات الودائع من الخارج وتؤدي الى رفع النمو الى معدلات قادرة على خلق فرص عمل. في الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان أخيراً، فإن العجز في الحساب الجاري لا يزال يسجل تراجعات مهمة قد يكون لها وقعها الجيد على المؤشرات الاقتصادية الكلية، لكنها في المقابل ترسم صورة عن تدهور طريقة معيشة اللبنانيين، لكون التراجع في الاستهلاك ليس صحياً لأنه يأتي ترجمة للشح في العملات الاجنبية وليس نتيجة سياسة مالية واقتصادية سليمة تضع مسألة تعزيز التصدير وجذب الاستثمارات في سلم الأولويات من أجل تقليص الفاتورة التجارية.

كما هو معلوم، فإنّ الحساب الجاري يعد أحد المكونات الثلاثة لميزان المدفوعات، إلى جانب حساب رأس المال والحساب المالي. وهو يتكون من الميزان التجاري، أي عمليات التصدير والاستيراد، ومن ميزان الخدمات التي تغطي تصدير واستيراد خدمات النقل، والسياحة والتأمين وغيرها من الخدمات. كما يتضمن التدفقات المالية، وتحويلات الحكومة العامة.

عام 2020 (بحسب آخر الإحصاءات الصادرة عن المصرف المركزي)، سجل الحساب الجاري عجزاً قيمته 3 مليارات دولار بتراجع 74 في المئة عن ذاك المسجل في 2019 والبالغ في حينه 11.4 مليار دولار.

في تفاصيل مكونات الحساب الجاري، الآتي:

– سجل الميزان التجاري عجزاً العام الماضي هو الادنى له منذ العام 2006. ويعتبر هذا العجز المصدر الرئيس للعجز في الحساب الجاري. وهو بلغ 6.5 مليارات دولار بتراجع تخطى الخمسين في المئة عما سجله عام 2019. إذ تراجعت البضائع المستوردة نحو 42 في المئة الى 10.6 مليارات دولار، فيما انخفضت الصادرات 15.3 في المئة على أساس سنوي الى 4 مليارات دولار في أدنى مستوى منذ العام 2018.

– بلغت تدفقات تحويلات المغتربين الى لبنان 6.63 مليارات دولار في 2020 بتراجع نسبته 10.5 في المئة عن الـ 2019 حين بلغت 7.41 مليارات دولار. أما تدفقات التحويلات التي خرجت من لبنان فبلغت 2.95 ملياري دولار متراجعةً 32 في المئة عن العام 2019 حين بلغت 4.43 مليارات دولار. وبذلك، تكون التحويلات الصافية الى لبنان بلغت 3.69 مليارات دولار في 2020 بزيادة 20 في المئة عما بلغته عام 2019 أي 3.1 مليارات دولار.

– تراجعت الايرادات السياحية بواقع 72.6 في المئة الى 2.4 ملياري دولار في 2020، وتراجع الانفاق السياحي بنسبة 73.6 في المئة الى 1.67 مليار دولار العام الماضي. مع الاشارة هنا إلى أنّ الايرادات السياحية والانفاق السياحي قد تراجعا الى أدنى مستوى منذ بدأ مصرف لبنان نشر هذه المؤشرات عام 2002. وبذلك، تكون الايرادات السياحية الصافية قد تراجعت بواقع 70 في المئة الى 682 مليون دولار في 2020، وهو المستوى الأدنى المسجل حتى اليوم.

– يقدر البنك الدولي في تقريره الاخير عن لبنان الصادر في تشرين الاول الماضي، نسبة الحساب الجاري الى الناتج المحلي بـ6.9 في المئة في 2020 انخفاضاً من 21.9 في المئة في 2019. وهو يتوقع أن يرتفع مجدداً ليصل الى نحو 10 في المئة في 2021.

في المقابل، أظهرت المكونات الاخرى لميزان المدفوعات أن ميزان رأس المال الذي يضم الهبات الاجنبية، سجل فائضاً بقيمة 1.6 مليار دولار أو ما نسبته 28.3 في المئة، من فائض قيمته 1.3 مليار دولار في 2019، وهو الفائض الأعلى المسجل منذ عام 2018. وكان ميزان رأس المال سجل فائضاً متوسطاً بـ1.6 مليار دولار ما بين 2013 و2018 نتيجة تدفقات الهبات الاجنبية لدعم النازحين السوريين والمناطق المضيفة لهم. لكن هذا الفائض تراجع عام 2019 بعد تراجع الهبات الاجنبية.

أما رصيد الحساب المالي الذي يضم الاستثمارات المالية المباشرة، والمحفظة الصافية للاستثمارات وغيرها من الاستثمارات، فسجلت فائضاً لتبلغ 11.7 مليار دولار في 2020، مقابل فائض قيمته 6.3 مليارات دولار في 2019. وبلغت المحفظة الصافية للتدفقات الى لبنان 1.8 مليار دولار في 2020 مقابل تدفقات الى الخارج بقيمة 909 ملايين دولار في 2019. وهي بلغت 3.1 مليارات دولار في الربع الاول والتي هي في جزئها الاكبر نتيجة شراء سندات اليوروبوندز من غير المقيمين، في حين تحولت هذه المبالغ الى تدفقات الى الخارج في الربعين الثاني والثالث وبقيمة 1.3 مليار دولار و460.8 مليون دولار على التوالي عقب قرار حكومة حسان دياب تعليق سداد مستحقات لبنان من سندات اليوروبوندز.

كما بلغت الاستثمارات الاجنبية المباشرة 2.8 ملياري دولار في 2020، وهي تمثل زيادة بنسبة 39.3 في المئة من 2.05 ملياري دولار في 2019 بسبب تحول ودائع غير المقيمين الى القطاع العقاري، في حين تراجعت تدفقات الاستثمارات المباشرة الى الخارج بواقع 82.5 في المئة الى 53 مليون دولار. وبذلك، تكون الاستثمارات الخارجية الصافية بلغت 2.8 ملياري دولار في 2020 مقارنة بـ1.7 مليار دولار في 2019.

أما الاستثمارات الاخرى، التي تشكل مكوناً من مكونات رصيد الحساب المالي والذي يضم تدفقات الودائع الى القطاع المصرفي، ومتأخرات الدين بدءاً من آذار 2020، فهي تحولت من تدفقات الى الداخل بقيمة 3.1 مليارات دولار في 2019 الى تدفقات الى الخارج بقيمة 6.1 مليارات دولار في 2020، ومعظمها نتيجة تراجع الودائع المصرفية بالعملات الاجنبية.

وبالتوازي، تراجعت الموجودات الصافية بالعملات لمصرف لبنان بواقع 13 مليار دولار في 2020 مقارنة بتراجع 2.4 ملياري دولار في 2019.

شارك المقال