إنهاء التفاوض التقني مع “الصندوق” ليس اتفاقاً معه

المحرر الاقتصادي

ما يحصل في لبنان سوريالي. الليرة في أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار الأميركي، والأسعار تواصل تحليقها من دون استشراف سقف لها وتجعل من المواطنين الذين باتوا في معظمهم فقراء غير قادرين على توفير حاجاتهم الأساسية من غذاء ودواء ومحروقات للتنقل.

لبنان “ليس منهاراً بعد، لكنه على شفير الانهيار”، قال المسؤول الأممي أوليفييه دي شوتر عندما زار بيروت منذ نحو أسبوعين، متهماً السلطات اللبنانية بأن ما قامت به من تدمير للعملة الوطنية، وإدخال البلد في مأزق سياسي، وتعميق أوجه عدم المساواة التي طال أمدها، أغرق لبنان في فقر مدقع.

كل هذا المشهد المأساوي لم يحمل المسؤولين عن عرقلة اعادة بناء الاقتصاد ووضعه على السكة الصحيحة، إلى تقديم تنازلات من شأنها أن تعيد النبض الى عمل الحكومة المشلولة منذ أسابيع والتي كان يفترض بها أن تكون جلساتها مفتوحة لبدء مسار المعالجة الطويل. فيما تكتفي “الحكومة المصغرة” بعقد اجتماعات لاتخاذ اجراءات مجتزأة و”على القطعة” من دون أن تكون من ضمن خطة شاملة تتناول آليات المعالجة وتقوم بتوزيع عادل للخسائر المالية الهائلة بعد الاتفاق على أرقامها (جمعية مصارف لبنان حددتها بنحو 55 مليار دولار، مقابل 83 ملياراً حددتها الخطة السابقة للتعافي التي وضعتها شركة لازارد، في حين يقول صندوق النقد الدولي إن حجم هذه الخسائر قد يصل إلى 113 ملياراً).

وبالتالي، فإن ما يحصل راهناً سوف يكون له تداعياته السلبية على إمكان قيامة الاقتصاد، كمسألة زيادة الدولار الجمركي من أجل تغطية “الهدية” التي تقرر منحها لموظفي القطاع العام برفع بدلات نقلهم وإعطائهم منحاً مالية شهرية، أو بحث رفع التعرفة الكهربائية لزيادة ايرادات مؤسسة كهرباء لبنان من خارج اي خطة لإصلاح هذا القطاع المتهالك الذي يستنزف خزينة الدولة.

ليس المشهد سوريالياً فقط بل تصريحات الوزراء ايضاً. فما أعلنه وزير الاقتصاد أمين سلام عن إمكان وصول سعر صرف الدولار الى هامش يتراوح ما بين 9 آلاف و12 ألف ليرة وعن أن سعر الـ16 ألفاً هو الأقرب إلى الواقع الاقتصادي بهذه المرحلة، هو أمر يدخل في إطار التمنيات لأنه مرتبط بمجموعة من الخطوات والإتفاقات والإجراءات التي لم ينفذ منها شيئاً حتى الآن، ولا سيما تلك المتعلقة بنجاح التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

تطورات التفاوض

وفي آخر التطورات في ملف التفاوض مع الصندوق، أعلن نائب رئيس الحكومة رئيس اللجنة المكلفة بذلك سعادة الشامي بعد زيارته رئيس الجمهورية ميشال عون، أن “كل المفاوضات التقنية انتهت تقريباً، ودخلنا في مرحلة المفاوضات على السياسات النقدية والاقتصادية”.

والمفاوضات التقنية تكون عادة تمهيدية، بمعنى أنها تمهيد لأي مفاوضات بشأن البرنامج التمويلي المؤمل الحصول عليه حين يطلب الصندوق بيانات ومعلومات عن المصرف المركزي والمصارف وعن أرقام المالية العامة ومتأخرات السداد وغيرها.

وأوضح الشامي أن “هدف الحكومة لا يزال التوصل إلى اتفاق مبدئي قبل نهاية العام، على أن يتم بعده التوصل إلى اتفاق نهائي في كانون الثاني من العام المقبل”. وهو ما يظهر التخبط في التصريحات في هذا الشأن. فما أدلى به الشامي يتعارض مع تصريحات أدلى بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الاسبوع الماضي قال فيها إن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لن تبدأ مع بداية السنة الجديدة، بل ستتطلب مزيداً من الوقت. كما تتباين مع ما أعلنه رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، قبل أيام من تصريح ميقاتي، من أن “قضية لبنان معقدة وقد تتطلب وقتا لحلّها”.

ولفت الشامي إلى أن “المفاوضات مع الصندوق تعتمد على محاور عدة، منها ما يتعلق بالسياسة المالية أي الموازنة، وهي عنصر أساسي بالتفاوض حيث يعمل وزير المال على التحضير لها بأسرع وقت ممكن، بالإضافة إلى موضوع سعر الصرف، السياسة النقدية، والقطاع المصرفي والمالي، ونعد تصوراً لكيفية حل هذا الموضوع سنعلن عنه فور اكتماله”.

وعن خطة الحكومة وتوحيد الأرقام، قال الشامي إن “أي خطة ستكون أرقامها موحدة… واللجنة المكلفة التفاوض مع الصندوق مؤلفة من 3 وزراء وحاكم مصرف لبنان وقد اجتمعت مرات عدة وستواصل اجتماعاتها في المستقبل القريب كي تتوصل إلى اتفاق على كل عناصر الخطة”.

وهذا يعني أن اللجنة لم تتوصل بعد الى توحيد أرقام الخسائر كما أعلن منذ يومين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الأخير قال في حديث لوكالة “رويترز” إن “لبنان لم يقدّم بعد تقديرات لحجم الخسائر في نظامه المالي إلى صندوق النقد الدولي، لكنه يعمل بجد لتوقيع مذكرة تفاهم مع الصندوق بحلول نهاية العام”، على الرغم من أن ميقاتي كان اعلن خلال لقاء في المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن “هناك خطوات متقدمة مع صندوق النقد الدولي، وللمرة الأولى قدمنا أرقاماً موحدة للصندوق”.

وحسم الشامي مسألة وجوب توحيد سعر الصرف بكونه شرطاً من شروط الصندوق الأربعة، وهي الاعتراف الجدّي بخسائر مصرف لبنان والقطاع المصرفي، والاتفاق على توزيع عادل للخسائر، وتوحيد تدريجيّ لسعر الصرف، وإقرار قانون الكابيتال كونترول بصيغة مقبولة من صندوق النقد. وهذا يعني أن الطريق طويل جداً لبلوغ اتفاق نهائي في كانون الثاني كما تأمل الحكومة، وتتطلب توافقاً سياسياً في الكثير من المحطات قد لا يكون متوافراً لإنجاح المفاوضات المعقدة. ولذا، لا بدّ من التمسك بالواقعية في احتمالات نجاحها.

شارك المقال