لهذه الأسباب سيعاود الدولار ارتفاعه

المحرر الاقتصادي

البيان الصادر مساء الثلاثاء عن مصرف لبنان عقب الاجتماع الذي دعا إليه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وشارك فيه وزير المال يوسف الخليل وحاكم المصرف المركزي رياض سلامه، والذي اتخذت خلاله تدابير تستهدف لجم التدهور المريع في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، سوف يكون له بالتأكيد انعكاسات على سعر الصرف في السوق الموازية. وهو ما تلمّسه فعلاً المواطنون عقب نشر البيان. لكنّ التحسن المرجو في سوق الصرف سيكون أشبه بـ”مخدّر موضعي”. بمعنى أن مفاعيله لن تدوم طويلاً، وسيعاود الدولار تحليقه أمام الليرة لكون الأسباب السياسية والتقنية التي دفعت إلى ارتفاعه الجنوني – إذ لامس سعر صرف الليرة مقابل الدولار الـ29 ألفاً في وقت ارتفع إلى 23 ألفاً على منصة “صيرفة”– لم تتبدد. فلا حل في الأفق يفرج عن اجتماعات مجلس الوزراء الذي يفترض أن تكون جلساته مفتوحة لمعالجة أوجاع الناس، ولا خطة منجزة للتعافي الاقتصادي والمالي تشكّل التدابير المعلن عنها وصولاً الى توحيد سعر الصرف جزءاً منها، على الرغم من أن الحكومة وعدت بأن تكون جاهزة في نهاية تشرين الثاني. 

لقد حدّد البيان الخطوات التي سيقوم بها المصرف المركزي لتهدئة سوق الصرف. فهو سيزوّد المصارف العاملة حصتها النقدية – أي الكوتا المحددة لكل مصرف على أساس رسملته وحجم ودائعه – لما تبقى من هذا الشهر ‏بالدولار الأميركي النقدي بدلاً من الليرة اللبنانية، وذلك على سعر صرف منصة “صيرفة”. ‏وسيطلب في المقابل من المصارف بيع الدولارات المشتراة على سعر “صيرفة” كاملة ‏إلى مختلف عملائها عوضاً من الليرات اللبنانية التي كانت مرصودة لدفعها بالليرة.‎ وسينظم سداد القروض التجارية بالعملات الاجنبية نقداً بالليرة ‏اللبنانية على السعر المحدد في التعميم 151 أي 8000 ليرة حالياً “مما يساعد في خفض ‏الطلب على الدولار ويزيد الطلب على الليرة اللبنانية في الأسواق“، وفق ما جاء في البيان.

‎قرار اجتماع السراي أن يزود مصرف لبنان المصارف بالدولارات “لما تبقى من هذا الشهر”، أي لفترة قصيرة جداً لا تتعدى الأسبوعين، لن تحل مشكلة تدهور سعر الصرف، لأن المصرف المركزي عاجز عن الاستمرار بهذا التدبير لفترة أطول. فموجوداته المتناقصة باستمرار من العملات الأجنبية، والتي وصلت إلى حدود 13.2 مليار دولار نهاية تشرين الثاني، لن تسمح له بالمزيد من ضخ دولارات. مع العلم أن “المركزي”، وعلى الرغم من رفع الجزء الأكبر من دعمه عن السلع الاساسية، لا يزال يؤمّن النفقات الحكومية كتوفير دفعات بالعملات الأجنبية لمؤسسة كهرباء لبنان، إضافة إلى توفير التمويل لمنصة “صيرفة”. 

ومن الأسباب الضاغطة ايضاً على سعر الصرف، اضطرار أصحاب شركات استيراد المحروقات للجوء الى السوق الموازية من أجل تأمين ما نسبته 15 في المئة من الدولار النقدي ثمناً لاستيراد مادة البنزين، بعدما رفع المصرف المركزي هذه النسبة قبل أيام من 10 في المئة، وقد ترتفع في الأيام المقبلة. فضلاً عن وجوب تأمين كامل سعر مادة المازوت بالدولار نقداً، وهو ما يزيد من الطلب على الدولار في السوق الموازية، ويفاقم الضغط على قيمة الليرة.

ويضاف إلى كل ما سبق، حجم الكتلة النقدية المرتفع أصلاً والذي سيتسبب تعديل التعميم 151 الذي يسمح للمودعين بسحب ودائعهم الدولارية على أساس 8 آلاف ليرة بدلاً من 3900، بزيادتها مما سيؤدي الى توجه حاملي الليرة الى السوق الموازية طلباً للدولار. وكانت إحصاءات مصرف لبنان أظهرت أن الكتلة النقدية التي تشمل النقود الورقيّة المتداولة في الأسواق، والودائع المصرفيّة غبّ الطلب، إضافة إلى الودائع المتوافرة غبّ الطلب للمصارف التجاريّة في مصرف لبنان، وصلت الى 53 ألفا و872 مليار ليرة نهاية تشرين الاول 2021، بزيادة نسبتها 34.2 في المئة عن نهاية تشرين الاول 2020. وبلغ النقد في التداول 38 ألفا و706 مليارات ليرة وبزيادة 32.4 في المئة في 10 أشهر.

إزاء كل ذلك، هل ستحصل المعجزة في مدة الأسبوعين القصيرة، وتتمكن الحكومة من استعادة عافيتها وإنجاز خطة التعافي التي يفترض “أن تضع في أولوياتها معالجة الأزمة النقدية وسعر صرف العملة الوطنية، وتنطلق بالإصلاحات المطلوبة، وتدخل في مفاوضات مسؤولة مع صندوق النقد الدولي، لرسم مسار الخروج من المأزق الكبير” كما وعد ميقاتي من المجلس الاقتصادي والاجتماعي؟ وهل رقم حجم خسائر القطاع المالي الذي كشفه لوكالة “رويترز” نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي والذي قال إنه يراوح ما بين 68 مليار دولار و69 ملياراً حصل على توافق سياسي لتقديمه الى الصندوق؟ أم سيتكرر مشهد العام الماضي حين عُلقت المفاوضات التقنية التي بدأتها حكومة حسان دياب نتيجة التباين الكبير في أرقام الخسائر بين مصرف لبنان والمصارف والحكومة ولجنة المال والموازنة النيابية؟

مسار تدهور سعر صرف الليرة

رسم مصرف “بنك لبنان والمهجر” في تقرير له منذ أيام، خريطة مسار تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ بدء تحركه في أيلول 2019 والعوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى التراجع الدرامي للعملة المحلية وفقدانها أكثر من 90 في المئة من قيمتها اليوم.

ولأهمية المراحل التي قطعتها الليرة طوال هذه الفترة، فإن “لبنان الكبير” يوجز أبرز ما ورد في التقرير والمحطات المهمة في تدهور العملة:

بدأ سعر صرف الليرة يتحرك في آب 2019 من تثبيت لسنوات على سعر 1515 ليرة وسطياً. فسجل في آب 2019 ارتفاعا نسبته 3.76 في المئة الى 1572 ليرة. وفي أيلول 2019، سجل سعراً متوسطياً هو 1681 ليرة، ثم 1722 ليرة في تشرين الاول 2019. 

في الآتي، لمحة عن تدهور سعر الصرف والعوامل المرافقة:

– تشرين الاول 2019/تشرين الثاني 2019: خلال هذين الشهرين، تراجعت الليرة بنحو 10.3 في المئة وبلغت 2150 ليرة للدولار الواحد. وقد شهدت هذه الفترة تظاهرات واقفال المصارف أبوابها لأسبوعين تلاها فرض قيود غير رسمية على عمليات السحب والتحويل.

– آذار/حزيران 2020: شهدت الليرة تراجعات كثيرة خلال هذه الأشهر لتصل الى 8600 ليرة للدولار الواحد. في آذار، اتخذت حكومة حسان دياب قراراً بوقف سداد لبنان لمستحقاته من سندات اليوروبوندز. ثم بدأت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي على أمل التوصل الى اتفاق تمويلي معه، لكن هذه المفاوضات علقت بعد فترة.

– آب 2020: هذا التاريخ شهد للمرة الاولى منذ الازمة المالية، تحسناً لليرة تجاه الدولار بلغت نسبته 5.95 في المئة (7600 ليرة). الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زار بيروت بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب، وجمع الاطراف السياسيين على طاولة واحدة من أجل العمل على مواجهة الازمة، وهو ما انعكس ايجاباً على سعر صرف الليرة.

– أيلول/تشرين الثاني 2020: خلال هذه الفترة، تجدد الأمل بلبنان بامكان أن تتحسن الليرة لتصل الى 4800 مقابل الدولار. وقد شهدت هذه الفترة تسمية الرئيس سعد الحريري لتأليف حكومة، وزيارة ثانية للرئيس الفرنسي وعد خلالها بتوفير المساعدات واعادة اعمار المرفأ داعياً الى تنفيذ الاصلاحات المنشودة. كما شهدت تدفقاً كبيراً للمساعدات النقدية لدعم ذوي ضحايا مرفأ بيروت والمساعدة على إعمار ما تهدم.

– كانون 2020/تموز2021: هذه الفترة شهدت فشل المبادرة التي أطلقها الرئيس ماكرون، معطوفة على عدم قدرة الرئيس الحريري على تشكيل حكومة نتيجة للعراقيل التي وضعها أمامه رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل. كل ذلك أدى الى المزيد من وهن الليرة التي سجلت في آخر تموز تدهوراً غير مسبوق بلغت نسبته 26.5 في المئة ووصلت الى 19 ألفاً. وفي هذا الشهر أيضا، اعتذر الرئيس الحريري عن تشكيل الحكومة، وهو ما زاد حالة عدم اليقين في وقت يحتاج لبنان بشدة حكومة تعمل على وقف الانهيار وتتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.

– ايلول 2021: شهد هذا الشهر تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، وهو الامر الذي قرأته السوق ايجاباً. وسجلت الليرة تحسناً مهماً بلغت نسبته 15.8 في المئة ووصلت الى 17350 مقابل الدولار. كان المناخ السياسي واعداً وخصوصاً في ما يتعلق بالمحادثات مع الصندوق.

– تشرين الاول/تشرين الثاني 2021: أحداث مهمة كثيرة حصلت خلال هذين الشهرين. وكانت للخلافات السياسية التي أوجدتها تصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي ضد المملكة العربية السعودية والمشكلة التي فجرها الثنائي الشيعي داخل مجلس الوزراء بهدف ازاحة القاضي طارق بيطار، تداعياتها الكبيرة على سعر الصرف الذي وصل الى حدود 24600 ليرة مقابل الدولار. 

– كانون الاول 2021: اقترب الدولار من عتبة الـ29 ألف ليرة قبل أن يتخذ اجتماع السراي تدابير بهدف لجمه.

شارك المقال