التلاعب بالدولار مستمر.. والمنحى تصاعدي

هدى علاء الدين

دخل الدولار في لبنان العام 2022 من باب الـ 30 ألفاً، ليدخل سعر صرف العملة الأجنبية فصلاً جديداً من الارتفاع الجنوني، إذ لا يكاد يهدأ لفترة وجيزة حتى يعاود الانقضاض بضراوة بفعل التلاعب المفتعل به والذي بات يأخذ أوجهاً عديدة لغايات وأهداف ملغومة. وعلى الرغم من أن سوق الدولار يخضع لعوامل العرض والطلب، إلا أن عوامل أخرى أشدّ فتكاً تؤثر في منحاه الذي يتسم منذ عامين بالارتفاع من دون أي ضوابط جدية لتغيير وجهته. مصرف لبنان الذي اعتبر أن التطبيقات التي تقوم بالإعلان عن الأسعار من دون الإشارة إلى حجم العمليات هي تطبيقات مشبوهة وغير قانونية مطالباً الأجهزة الأمنية بملاحقتها وضبطها، قررت الهيئة المصرفية التابعة له توجيه إنذارات تسبق شطب الرخص الممنوحة من قبله لـ 188 صرافاً لعدم التزامهم تسجيل عمليات بيع وشراء الدولار على منصة صيرفة، على أن يتسلم الصرافون هذا القرار خلال فترة 40 يوماً.

فهل آن الأوان للضرب بقبضة من حديد وبشدة على أيدي المضاربين والمحتكرين وأصحاب التطبيقات الذين حتى اليوم لا يزالون يتمتعون بغطاء سياسي يحميهم ويشرّع لهم العبث بسعر صرف الدولار وتحقيق الربح غير المشروع؟ القضية حتماً ليست مستحيلة، إنما تحتاج إلى قرار سياسي من الحكومة لتكون بذلك عوناً للبنانيين فيما أصابهم وليس عبئاً إضافياً عليهم.

ثلاثة عوامل رئيسية

وفي هذا الإطار، اعتبر الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها لبنان اليوم هي في عدم وجود اقتصاد بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ أن كل شيء أصبح متعلقاً ومرتبطاً بالسياسة، مشيراً إلى ضرورة إتخاذ بعض الإجراءات والخطوات الإصلاحية لكن لا يوجد حكومة تبادر من أجل ذلك. وإذ أكّد عجاقة وجود مشكلة بنيوية تتمثل في ان الاقتصاد اللبناني عاجز اليوم عن تكوين سيولة والحصول على الأموال اللازمة من العملة الاجنبية من أجل إعادة الدورة الاقتصادية إلى طبيعتها مقابل صرف كافة الدولارات المتوافرة في السوق واستنزافها، شدّد على ثلاثة عوامل رئيسية يحتاج لبنان اليوم إلى توافرها سريعاً:

1- البدء بإجراء الإصلاحات اللازمة والتي تفتح الباب أمام تدفق الأموال ومساعدات المجتمع الدولي والدول المانحة وبالتالي تفعيل الماكينة الاقتصادية، متوقعاً في ظل غياب الخطوات الإصلاحية أن يبقى الاقتصاد من دون أي مدخول مالي وأن يتراجع النمو في العام 2022 بحدود الـ 4 في المئة.

2- معالجة مشكلة الديون سواء تلك الداخلية أم الخارجية، خاصةً أن قسماً كبيراً من سداد هذه الديون سيكون من خلال تفعيل الاقتصاد. صحيح أن الحكومة تعمل على الخطة الاقتصادية من أجل تقديمها لصندوق النقد الدولي، إلا أنه لغاية اليوم لم يتم الاتفاق والتوقيع معه رسمياً من أجل التفكير جدياً بكيفية إعادة هيكلة الديون وسدادها لمستحقيها وإجراء الإصلاحات المالية التي توفر البئية المناسبة لهذه العملية.

3- حلّ مشكلة المضاربة وتفشي الفاسدين من جذورها، ولا سيما أن أكثر من ثلثي السوق يحتوي على مضاربين ومحتكرين وعصابات تتلاعب بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، وكل ذلك يأتي على حساب المواطن الذي وقع ضحية التطبيقات وأسعار التجار الذين يسارعون إلى رفع الأسعار بمجرد ارتفاع الدولار علماً أن معظمهم اشتروا بضائعهم على سعر أقل من سعر الصرف.

وحسب عجاقة، فإن هذه العوامل الثلاث هي التي تؤثر في الدولار بشكل أساسي ومباشر، متوقعاً في ظل الأجواء التي تُخيم على لبنان اليوم أن يبقى الدولار على مساره التصاعدي، رافضاً الإفصاح عن أي من الأرقام التي بحوزته لأن نشرها يُرعب السوق، فضلاً عن أنها تشكل حالة من الهلع والذعر وتلعب دوراً سلبياً وتخلق رأي عام يُسارع إلى التصرف على أساس الأرقام التي تُعطى له ويحولها إلى حقيقة، وهذا ما يُعرف في علم الإحصاء بمبدأ “قانون الأعداد الكبيرة” (أي قيام الأشخاص بالتوجه عينه وتحويله إلى حقيقة، حتى لو كان هذا الفعل في الواقع ليس حقيقياً).

أما عن عملية التنجيم والتكهن لأي مستوى سيصل سعر صرف الدولار، يقول عجاقة أنها أصبحت مثل المضاربة، فهناك أشخاص يتعمدون القول بأن الدولار سيرتفع إلى مستوى معين ومن ثم يعمدون إلى رفعه. وخير دليل ما حدث بعد ليلة رأس السنة، عندما نام اللبنانيون على سعر صرف واستيقظوا على سعر أعلى في يوم عطلة لا يوجد فيه تداول للعملة الخضراء والمصارف ومعظم القطاعات بلا عمل، فلا شيء يبرر ارتفاع سعر صرف الدولار حينها إلا وجود من يحرك التطبيقات ويتلاعب بالسعر صعوداً، لافتاً إلى أنه في حال توافر حجج اقتصادية لكان تم الإفصاح عنها والبناء عليها والقول أنه في المرحلة المقبلة سيرتفع الدولار إلى الـ 35 أو الـ 40 أو سينخفض إلى الـ 25 ألف ليرة، لكن المشكلة أنه لا يوجد أي منها على أرض الواقع.

لا يوجد حل سحري يحل الأزمة بين ليلة وضحاها، يقول عجاقة، مؤكداً أن الحل يكمن في تنفيذ النقاط الثلاث التي ذكرها أعلاه، مشيراً إلى أن وقع الشلل الحكومي على الاقتصاد يُشبه تماماً وقع انفجار المرفأ، وهو من أخطر الأوضاع التي يمر بها لبنان والتي تًمزق ما تبقى من اقتصاده، لا سيما أن الدستور منح الحكومة حصرية القرار الاقتصادي، فهي التي تضع السياسات العامة وتقرر كيفية التحاور مع صندوق النقد وهي من تستطيع محاربة الفساد والحد من فلتان السوق السوداء، وتطبيق القوانين وفرض الرقابة على الأسعار لا سيما أن معظم السلع غير مسعرة في المحلات والسوبرماركيت وهذا مخالف لقانون حماية المستهلك، آملاً أن يتم متابعة ملف التطبيقات غير الشرعية بعد أن عقد وزير الداخلية اجتماعاً مع رؤساء أجهزة أمنية للبحث بها وعدم تركه من دون اتخاذ التدابير اللازمة.

فصل الاقتصاد عن السياسة

وعما إذا كان الاقتصاد في لبنان ضحية الصراع السياسي، يقول عجاقة إن الصراع السياسي ليس جريمة وهو متواجد في كافة دول العالم، ومثال على ذلك بلجيكا التي تنقسم إلى بلجيكا من أصل هولندي وبلجيكا من أصل فرنسي (الفلامون والوالون)، بحيث بقيت 180 يوماً من دون حكومة إلا أن اقتصادها لم يتعطل بل على العكس شهد حالة من النمو لاحقاً. وهذا ليس معناه أن الاقتصاد يمكن له أن يزدهر وينمو من دون حكومة سياسية، بل هي علامة أن لدى اتخاذ القرارات الاقتصادية لا بد من فصلها عن السياسة. أما في لبنان، فهناك من يقول أن فصل الاقتصاد عن السياسىة هي عملية متشابكة ومعقدة، وهنا يتساءل لماذا إذا أردنا إصلاح الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر وهل يجب أن يتم ربطها بالنزاعات والصراعات السياسية؟

وأبدى عجاقة عدم يقينه ما إذا كانت الانتخابات النيابية ستحمل تغييرات جذرية على المستوى السياسي والاقتصادي، مشيراً إلى أن ما ينتظره من الانتخابات هو أكثرية نياببة يكون لديها رؤية اقتصادية موحدة، لأنها ستكون بلا شك مهما كانت أفضل بكثير من حالة الفوضى التي يعيشها لبنان اليوم.

شارك المقال