الدولة الفاشلة

هدى علاء الدين

عندما نفكر في الدول الفاشلة، فإن الصور التي تتبادر إلى الذهن هي أفغانستان أو اليمن أو جنوب السودان، لكن لبنان الذي كان الدولة الأكثر روعة في الشرق الأوسط، انضم إلى تلك الدول. بهذه الكلمات وصفت قناة “CNN” تموضع لبنان في قائمته الجديدة جراء الانهيار الشامل والتام الذي أصابه منذ أكثر من عامين، في تقريرها الذي اعتمد بشكل واضح على البيانات التي نشرها البنك الدولي مؤخراً، مشددة على الوضع الكارثي الذي يغرق فيه لبنان في انهيار يُعدّ من أعنف الانهيارات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ العام 1850. فلبنان الذي يعيش أزماته على وقع تقارير دولية لا تهدأ وتيرتها، انخفض ناتجه المحلي الاجمالي بنسبة 58 في المئة إلى أقل من 22 مليار دولار، وانخفضت قيمة العملة الوطنية إلى أكثر من 90 في المئة، وبلغ متوسط التضخم 145 في المئة، تزامناً مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنقل والملابس أربعة أضعاف بحيث بات يعيش أكثر من 70 في المئة من السكان تحت خط الفقر، على غرار العديد من البلدان العربية والأجنبية التي شهدت انتعاشاً بعد الصدمة الأولية لجائحة كورونا.

كلفة الأسر 5 أضعاف

من جهتها، أصدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” سلسلة جديدة من مماثلات القوة الشرائية في المنطقة مع دولار الولايات المتحدة الأميركية خلال فترة وسطية امتدت من عام 2018 حتى عام 2021 على مستويي الناتج المحلي الإجمالي والاستهلاك الأسري. الإصدار الذي حمل عنوان “إطلاق نتائج جديدة لمماثلات القوة الشرائية في المنطقة العربية: الحجم الحقيقي للاقتصادات العربية”، شمل 13 بلداً عربياً هي: الأردن، الامارات العربية المتحدة، البحرين، فلسطين، السودان، العراق، عمان، قطر، الكويت، لبنان، مصر، المغرب والمملكة العربية السعودية. وأشارت “الإسكوا” إلى أنها بذلت جهداً إضافياً لشمول لبنان في المقارنة، ولا سيما أنه يعاني أزمة اقتصادية يفاقمها اجتماع التضخم مع فقدان العملة لقيمتها. ووفقاً لنتائج مماثلات القوة الشرائية، اتجهت القوة الشرائية لليرة اللبنانية على مستوى الناتج المحلي الإجمالي إلى هبوط حاد إزاء دولار الولايات المتحدة عام 2020، إذ قفز مماثل القوة الشرائية من 659 ليرة لبنانية لكل دولار عام 2019 الى 1.304 ليرات لبنانية لكل دولار، مع توقع وصوله إلى 3.639 ليرة لبنانية لكل دولار عام 2021. ويشير هذا المنحى إلى فقدان العملة المحلية نصف قوتها الشرائية عام 2020، مع فقدانها نسبة 82 في المئة من قوتها الشرائية ما بين عامي 2019 و2021. وفي حين أن القوة الشرائية لليرة اللبنانية شهدت تراجعاً أشد على مستوى الاستهلاك الأسري، تشير النتائج إلى أن الأسرة المعيشية في لبنان أصبحت تحتاج عام 2021 إلى مبلغ بالليرة اللبنانية أكبر بنحو 5.5 مرات عما كانت تحتاج إليه عام 2019.

على صعيد آخر، اعتبرت “الإسكوا” أن لبنان الذي شهد تضخماً متفاقماً عام 2021، إضافة إلى أسعار صرف موازية في السوق، فربما يبطل انخفاض قيمة الليرة إزاء الدولار تأثير المنحى المرتفع للأسعار، لكنه لا يزيل تداعيات التضخم المفرط. وبالتالي، فمن المتوقع أن يتزايد الغلاء في لبنان من 42 في المئة عام 2019 إلى 50 في المئة عام 2021، وأن يصل إلى أكثر من 55 في المئة على مستوى الاستهلاك الأسري.

شباب لبنان بلا علم وعمل

كذلك، أشارت منظمة “اليونيسف” في أحدث تقاريرها تحت عنوان “البحث عن الأمل” إلى أن الأزمة في لبنان تُجبر الشباب والشابات على نحو متزايد، على ترك التعليم والانخراط في عمالة غير رسمية وغير منتظمة والقبول بأجورٍ متدنية في سبيل البقاء على قيد الحياة ومساعدة أسرهم على مواجهة التحديات المتزايدة. بالأرقام، أظهر التقرير أن 31 في المئة من الشباب والشابات هم خارج دائرة العمل أو التعليم أو التدريب، في حين انخفضت نسبة الإلتحاق بالمؤسسات التعليمية من 60 في المئة إلى 43 في المئة. فالأزمة أدّت إلى زيادة آليات التكّيف السلبية الأخرى في موازاة خفض تكاليف التعليم، بحيث أن أكثر من 13 في المئة من العائلات تعتمد إستراتيجية تكيّف تتمثل بإرسال أطفالها، ما دون سن 18 عاماً إلى العمل، ولا سيما أن متوسط الدخل الشهري للشباب والشابات العاملين يبلغ 1.600.000 مليون ليرة لبنانية، أي ما يعادل 64 دولاراً حسب سعر السوق السوداء الموازية.

موازنة حارقة والمودعون في خطر

وفي زحمة التقارير المؤلمة التي تُعد جميعها مؤشراً الى واقع غير صحي ومستقبل مجهول المعالم، تغرق حكومة لبنان في دراسة موازنتها التي اعتبرها “المنتدى الاقتصادي الاجتماعي” مشروع الإمعان في الإفقار والتجويع والتضخم والإنكماش وتكريس المنظومة الفاسدة سياسياً وإقتصادياً ومالياً، عوض أن تكون الوسيلة المالية الرئيسية لتنفيذ خطة إصلاحية وتنموية شاملة والأداة الفاعلة لإخراج لبنان من نفق الانهيار الشامل، ولا سيما أن الزيادة الهائلة في الضرائب والرسوم والمقدرة بـ 26 ألف مليار (حوالي 90 في المئة منها ضرائب غير مباشرة) يتحمل وزرها الفقراء والمساكين وأصحاب الدخل المتوسط في حين لا تتجاوز الضرائب على أرباح الرأسماليين 3.7 في المئة، علماً أنه لأول مرة في تاريخ لبنان تزيد حصيلة الضريبة على الرواتب والأجور عن الضريبة على الأرباح، الأمر الذي سينعكس فروقات في المستوى المعيشي وزيادة حدة الصراع الاجتماعي والطبقي وتعميق حالات الفقر والبطالة واتساعها.

بالتوازي مع نار الموازنة الحامية، كشفت “رويترز” خطة الحكومة لمعالجة الأزمة المالية، وذلك عبر خفض قيمة الليرة اللبنانية إلى نسبة كبيرة بهدف تحويل الجزء الأكبر من الودائع بالعملة الصعبة في النظام المصرفي إلى العملة المحلية، مشيرةً إلى أنه وفق الخطة المقترحة، من المتوقع إعادة 25 مليار دولار فقط الى المودعين بالدولار، مع تحويل معظم ما تبقى إلى الليرة اللبنانية بأسعار صرف عدة، الأمر الذي سيسبب خسارة حوالي 75 في المئة من قيمة بعض الودائع البالغة 16 مليار دولار والمتراكمة بفضل أسعار الفائدة المرتفعة منذ العام 2015.

الخطة التي وُضع لها إطار زمني مدته 15 عاماً لسداد المبالغ لجميع المودعين، تقوم على توزيع الخسائر كالتالي: 38 مليار دولار من قبل المودعين، 13 مليار دولار من خلال خفض رأسمال مساهمي البنوك، 10 مليارات دولار في السندات الحكومية الدائمة و8 مليارات دولار من المصرف المركزي. كما سيُعمد إلى خفض 40 في المئة من قيمة الودائع البالغة 35 مليار دولار، والتي نتجت عن تحويل الليرة الى الدولار بسعر الصرف الرسمي بعد تشرين الأول 2019، من خلال أيضاً التحويل الى الليرة بسعر أقل من سعر السوق. كذلك، تهدف الخطة المقترحة إلى إعادة 25 مليار دولار من الودائع بالعملة الصعبة لمن كان لديهم أقل من 150 ألف دولار في حساباتهم قبل وقوع الأزمة، إلا أن من تراوحت أرصدة حساباتهم ما بين 150 ألف دولار و500 ألف دولار سيتمكنون من الحصول على قيمتها كاملة، لكن بالليرة اللبنانية على سعر السوق. أما أولئك الذين تزيد قيمة ودائعهم عن الـ 500 ألف دولار، والتي تبلغ قيمتها الآن حسب التقديرات 22 مليار دولار، فسيحصلون على حصص في القطاع المصرفي بقيمة 12 مليار دولار، اضافة إلى خمسة مليارات دولار من السندات الحكومية الدائمة في احدى شركات إدارة الأصول الحكومية.

شارك المقال