حُكم الفوضى

هدى علاء الدين

لا سلطة تعلو في لبنان اليوم على سلطة “الفوضى” التي باتت عنواناً لأزماته المستعصية، فصعوبة تنفيذ الحلول لا إيجادها تأخذ البلاد إلى منعطف خطير جديد بدأت تتبلور صورته في الأيام القليلة الماضية، لا سيما وأن المشكلة الأساسية لمعاناة اللبنانيين ليست اقتصادية بحتة إنما سياسية بالدرجة الأولى، تشعّبت فيما بعد لتصبح اجتماعية بسبب انهيار العملة الوطنية وتآكل القدرة الشرائية، وقضائية نتيجة نكايات يشتد عمقها كلما اقترب موعد الاستحقاقين النيابي والرئاسي.

أقل من خمسين يوماً تفصل لبنان عن الانتخابات النيابية، فترة من المتوقع أن تشهد شدّ حبال سياسي من العيار الثقيل بين الأطراف كافة، الأمر الذي سينعكس حكماً على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن حالة الفوضى هذه لم تعد مستغربة بل أصبحت أمراً واقعاً، إلا أن حساباتها وإن اختلفت من جهة إلى أخرى أو من مستفيد الى آخر تبقى الأخطر والأكثر فتكاً بما تبقى من مقومات لبنان، أما عن تداعياتها فقد أصبحت أكبر من أن يتحملها المواطن اللبناني. فعلى وقع هذه الفوضى، سقط قانون “الكابيتال كونترول” الذي سيعود إلى الواجهة بنسخ جديدة إرضاء لصندوق النقد الدولي، وانطفأت وعود كهرباء الـ 10 ساعات في نيسان، وارتفع سعر ربطة الخبز الكبيرة إلى 14 ألف ليرة، وارتفعت أسعار المحروقات بشكل ملحوظ ليتجاوز سعر صفيحة البنزين حاجز الـ 480 ألفاً والمازوت عتبة الـ 520 ألفاً، في حين وصلت قارورة الغاز إلى 329 ألفاً.

وعلى وقع هذه الفوضى أيضاً، يزور فريق من صندوق النقد الدولي لبنان لمدة أسبوعين في مهمة باتت أشبه بالمستحيلة قبل إجراء الانتخابات النيابية خاصة وأن التوصل إلى اتفاق نهائي على خطة التعافي الاقتصادية والمالية لا تزال تشوبه عقبات كثيرة أبرزها لناحية معالجة حجم الخسائر وحماية صغار المودعين والمباشرة بتنفيذ الاصلاحات التي لم ييأس الصندوق بعد من التذكير بها والالحاح عليها. أما عن الكباش القضائي – المصرفي، فجولاته يبدو أنها ستكون طويلة ولن تقتصر على ما حصل في الفترة الأخيرة، فكرة النار التي يتم اللعب بها ستحرق ما تبقى من أموال المودعين. أما عن الموازنة العرجاء فمصيرها أمام مجلس النواب لن يكون مغايراً لأجواء جلسة “الكابيتال كونترول”، لا سيما وأن توجهات المجلس تقضي بعدم إقرار أي قانون غير شعبوي لا يمكن تحمل انعكاساته على أبواب انتخابات يسعى البعض إلى تطييرها.

في مقابل هذه الفوضى العارمة، بدأت تظهر جلياً حالة العجز التام لحكومة “معاً للانقاذ”، بعدما سقطت في امتحان تحقيق أي إنجاز يُذكر من أجل خرق جدار الفشل، وهو ما ظهر جلياً عبر حالة عدم الرضى التي عكسها كلام الرئيس نجيب ميقاتي مؤخراً. فالمناكفات السياسية عادت إلى ذروتها مطيحة أي أمل ولو ضئيل بإجراء أي إصلاح يرسل إشارات إيجابية الى المجتمع الدولي والدول المانحة وصندوق النقد الدولي. وهنا تشير مصادر “لبنان الكبير”، إلى أن ميقاتي الساعي إلى إعادة إحياء العلاقات اللبنانية – الخليجية والتواق إلى إمضاء الاتفاق مع الصندوق لن يُسمح له بأي نجاح بسبب وجود قرار سياسي ضاغط يحمي هذه الفوضى إلى حين معرفة ما سينتج عن الانتخابات النيابية، وإلى حينها سيبقى لبنان غارقاً في متاهة تمرير الوقت القاتل الذي يجعل من الأزمة أزمات ومن الكارثة كوارث. فتجاهل الحلول عمداً بات سياسة منتهجة ومنع الإصلاحات غاية منشودة إلى حين بلورة صورة داخلية وخارجية تحدد توازن القوى من جديد.

إذاً، هي فوضى سياسية واقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية وأمنية وقضائية تحكمت بلبنان نتيجة سوء إدارة الأزمات التي شكلت حالة من الضبابية وعدم الوضوح والالتفاف على كل القضايا المصيرية وإيهام الداخل والخارج ببعض الإجراءات والاجتماعات الوهمية التي أصبحت روتيناً بلا نتيجة. صحيح أن اللبنانيين اعتادوا على هذه الفوضى أملاً منهم أنه بعد كل أزمة لا بد من انفراجٍ قريب عملاً بمبدأ “اشتدي أزمة تنفرجي”، غير أن ما يكمن وراءها سنوات قادمة من العذاب والتقشف، فالسقوط الحر في قعر الانهيار لن يكون من السهل أبداً تعويض خسائره والعودة إلى خريطة النهوض تتطلب مسؤولية وطنية تغيب عن الساحة السياسية اليوم ليبقى “حُكم الفوضى” سيد الانهيار الكبير.

شارك المقال