الخلاف على إعادة توزيع الثروة لا الخسائر يعطل النهوض الاقتصادي

محمد شمس الدين

يكثر الحديث اليوم في لبنان عن توزيع الخسائر، والاختلاف عليها، وفي الظاهر هذا هو سبب تأخر البدء بخطة النهوض والتعافي الاقتصادي، إعادة هيكلة القطاع المصرفي والدمج، إعادة هيكلة الدين العام، “الهيركات” “الكابيتال كونترول”، توزيع عادل للخسائر بين المصارف والدولة والمودعين، وغيرها من الأمور التي يجري التداول بها عبر الإعلام وعلى لسان القوى السياسية في كل مناسبة، وتحديداً اليوم في الزمن الانتخابي، فكل فريق سياسي “يطعّم” خطابه الانتخابي ببعض هذه المصطلحات، ويمكن القول إنه “ترند” الساعة، هذا عدا عن جيش محللي اقتصاد البلاط، الذين يتسابقون على الشاشات، وكل واحد وفقاً لرؤية انتمائه السياسي، إلا ما ندر كي لا نعمّم، ولكن لا أحد فعليا يتكلم عن المشلكة الحقيقية، والسبب الفعلي خلف تأخر النهوض الاقتصادي، الذي يدور الحديث عنه في الغرف المغلقة، بعيداً من صراع المحاور والسياسة، فما هو فعلياً سبب تأخر خطة النهوض؟

مصادر مقربة من دوائر القرار اللبناني، أكدت في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “كل الشعارات الرنانة اليوم، الكابيتال كونترول وإعادة توزيع الخسائر وغيرها هي تفصيل صغير أمام المعضلة الحقيقية”.

وقالت: “المشكلة اليوم هي في إعادة توزيع الثروة وليس الخسائر، من سيملك ماذا في مستقبل البلد؟ وللأسف هذا الأمر يأخذ منحى طائفياً كبيراً، فلبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية والدخول في الطائف، توزعت السلطة فيه، وتحولت من مارونية سياسية إلى شراكة، فترأس الرئيس الشهيد رفيق الحريري (السنة) معظم الحكومات تلك الفترة، وكان تحت إشرافه مباشرة المصرف المركزي، ووزارة المالية (استثنائياً)، أما الطائفة الشيعية فكان هدفها من السلطة، تحصين المقاومة، وتحديداً في ظل الاحتلال الاسرائيلي للجنوب وقتها، وكذلك العمل على إنماء المناطق المحرومة، والمشاركة في القرار السياسي بعد تغييب طويل منذ تأسيس الكيان. في المقابل حافظ المسيحيون على هيمنتهم على الشق الاقتصادي في البلد، عبر قوانين مجحفة فعلياً، تحمي الوكالات الحصرية، وتعزز الاحتكار، وتحولت لاحقاً إلى كارتيلات تهيمن على القطاعات الانتاجية التجارية، أهمها قطاعات: المصارف، الصناعة، السياحة، الزراعة والغذاء، وكان السبب في استمرار هذا الأمر، ذريعة الأقليات في المنطقة، وفكرة إلغاء المسيحيين كمكون لبناني أساسي، وتحديداً بعدما اعتبروا أن الطائف كان مجحفاً بحقهم. وللدلالة على ذلك، يمكننا مراجعة موقف البطريرك الماروني الراحل نصرالله بطرس صفير في العام 1998، عندما حاول الرئيسان نبيه بري ورفيق الحريري إلغاء الوكالات الحصرية وقتها، ووصف صفير الأمر وقتها، بأنها حرب أهلية جديدة بوجه اقتصادي ضد المسيحيين، وقد جُيّش المجتمع الدولي عبر سفاراته في لبنان على مدى عقود لحماية هذا الواقع الاقتصادي”.

وفقاً للأرقام المعلنة في كل قطاع، يتبين أن الإنفاق والخسائر التي تكبدها الاقتصاد اللبناني ذهبت إلى هذه القطاعات الخاصة، أوضحت المصادر، مشيرة الى أن “الموازنات العامة للدولة اللبنانية حققت من العام 1992 إلى العام 2020 فائضاً أولياً (ربحاً) يقارب الـ7 مليارات دولار أميركي، وذلك بعد استخدام الإيرادات العامة لتسديد تكاليف إدارة الدولة كافة، من نفقات تشغيلية واستثمارية ورواتب وأجور. في المقابل تخطى دين الدولة التراكمي للفترة نفسها مبلغ 96 مليار دولار، والسبب الرئيس خلف ذلك هو كلفة الدين العام، بحيث تخطت الفوائد قيمة الـ 88 مليار دولار، والهدف كان تأمين السيولة واستقطاب العملات الأجنبية عبر مصرف لبنان لتمويل الاستيراد، مع العلم أن رصيد استدانة الدولة بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) لا تتخطى قيمته الـ 6 مليارات دولار من مصرف لبنان، و10 مليارات دولار من المصارف التجارية فقط. وبلغت قيمة استيراد السلع خلال الـ 20 عاماً الأخيرة ما يقارب الـ 350 مليار دولار، ووصل صافي التدفقات النقدية إلى الخارج إلى حوالي 45 مليار دولار، وبالتالي تسببت بفجوة مالية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان تقارب الـ 70 مليار دولار”.

وتابعت المصادر: “معظم هذا الدين وهذه التكاليف كان خدمة مباشرة لكارتيلات القطاع الخاص، المستفيدة من الاستيراد والتي وقفت سداً منيعاً أمام تطوير الاقتصاد الانتاجي الداخلي. في المقابل تحولت هذه التكاليف إلى أرباح فاحشة في ميزانيات المصارف التجارية عبر عمليات مختلفة للاستدانة، مثل الهندسات المالية، وبالتالي تتحمل مؤسسات عامة رئيسة ومؤسسات في القطاع الخاص مسؤولية الانهيار، عبر نهب خيرات البلد وتحقيق أرباح خيالية ذوبت الدولار، عبر الاستيراد والتحويلات، وهي تتوزع على الشكل التالي:

– كهرباء لبنان: 40 مليار دولار، 30 ملياراً منها منذ استلام “التيار الوطني الحر” وزارة الطاقة، وهي تشكل تقريباً نصف الدين العام.

– وزارة المالية: 27 مليار دولار مفقودة في عهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وغير معروف أين وكيف صرفت.

– حكومة حسان دياب: 20 مليار دولار أهدرتها على الدعم المزعوم، والذي لم يستفد منه المواطن فعلياً.

– سعر الصرف: 45 مليار دولار كلفة تثبيت سعر الصرف عبر المصرف المركزي، وقد استفادت من هذا التثبيت المصارف بشكل أساس عبر الفوائد، وكذلك القطاع الخاص عبر الاستيراد والسيطرة على الأسواق اللبنانية لعقود من الزمن.

– كارتيل المصارف: 22 مليار دولار أرباح المصارف منذ العام 1993، الفوائد التي حصلتها تقارب الـ 84 مليار دولار. تقدر أرباح المصارف بفعل الهندسات المالية من العام 2016 إلى العام 2019 بقيمة 8 مليارات دولار، وأهم المستفيدين هم: بلوم بنك، عودة، سوسيتيه جنرال وبنك ميد.

– كارتيل النفط: 700 مليون دولار، حيث ترتفع الفاتورة النفطية إلى حوالي 6.2 مليارات دولار سنوياً، 2.4 مليار لاستيراد البنزين، 1.7 مليار لزوم مؤسسة كهرباء لبنان، وتتقاسم السوق 11 شركة تستورد وتخزن وتوزع أبرزها: Liquigas، Apec، Heilf Gefco، وCoral.

– كارتيل السيارات: 1.3 مليار دولار أرباح، مبيعات تفوق الـ 17 مليار دولار بين العامين 2005 و2019، أكثر من 60 ألف سيارة في العام، الوكلاء الحصريون الخمسة الكبار يسيطرون على 66% من السوق: داغر حايك وشركة ناتكو 27.1%، رسامني يونس وشركة ريمكو 14.3%، وليد رسامني وسنتري موتور 12.7%، بستاني ماشينري 12% وبسول وحنينه 6%.

– كارتيل الدواء: 1 مليار دولار أرباح، حجم السوق المحلية 1.3 مليار دولار، نسبة الأرباح بين 7 و100%، 5 شركات تسيطر على أكثر من نصف السوق: فتال، أبو عضل، آبيلا، كتانة وكافتاغو.

– كارتيل الحديد: أكثر من 900 مليون دولار أرباح، 5 شركات تسيطر على السوق: دمكو (أغوب دمرجيان)، Tannous SLM (سالم طنوس)، الموسوي، شركة رشاد قسام وشركة جان يارد.

– كارتيل القمح: 75 مليون دولارأرباح سنوية، نسبة الربح بين 30 و100%، 5 لاعبين كبار يسيطرون على السوق منهم مطاحن شبارو وسنو، وأفران كبرى شمسين 25% ووودن بايكري 15%.

– كارتيل الاسمنت: أرباح أكثر من 200 مليون دولار، إنتاج محلي محمي بفضل الوكالات الحصرية منذ العام 1993، والشركات هي: الترابة الوطنية (آل ضومط) 41%، هولسيم (شركة سويسرية 40%) سبلين (بنك ميد، وليد جنبلاط) 16%.

– كارتيل الزفت: أرباح بمئات ملايين الدولارات، 4 شركات تحتكر الاستيراد وتوزيعه: الشركة العربية (ناصر الشماع)، يونيتر منال (يملكها كويتيون)، كوجيكو(وليد جنبلاط) وميدو(مارون شماس).

– كارتيل شركات التأمين: لبنان أكثر بلد عربي يحتوي على شركات تأمين، فاتورة التأمين على اللبنانيين 1.5 مليار دولار، أكبر الشركات تابعة للمصارف، 12 شركة، و3 شركات تسيطر على 60% من السوق.

كل هذه الأرقام تظهر أين هي الثروة في لبنان اليوم، وفق المصادر، وتضيف: “طبعاً هؤلاء لن يقبلوا أن يخسروا امتيازاتهم، أو أن يشاركهم فيها أحد، على الرغم من أن البلد اليوم على باب تحويل الثروة، من فئة إلى أخرى، فمثلاً المغتربون الشيعة، دعموا الاقتصاد اللبناني بتحويلات وودائع تفوق الـ 70 مليار دولار، والجزء الأكبر منهم خسر ودائعه، والحل اليوم يكون إما بإعادة هذه الودائع، أو باعطائهم أسهماً في المصارف مستقبلاً، وهذا بحد ذاته مشكلة بسبب حزب الله، فكيف سيتعامل المجتمع الدولي مع مصارف لبنانية يملكها شيعة؟ اذ أنه لن يستطيع أن يفرق بين المؤيد وغير المؤيد لحزب الله بينها، فهل سيقبل الشيعة عندها بسندات دين أم سيتم تمليكهم مرافئ الدولة ومشاعاتها؟ وكيف سيكون تقسيم الحصص عندها؟ ومن هذه التساؤلات يمكن أن نستنتج أن موضوع توزيع الخسائر هو تفصيل، المشكلة ليست اليوم، المشكلة في المستقبل، ومن سيكونون أثرياء المستقبل وأصحاب الشركات والتجار في القطاعات”.

ولفتت المصادر الى أن “الانهيار لم يبدأ في العام 2019، بل قبلها بـ 8 سنوات، لحظة لعبة (الوان واي تيكيت) عندما أسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري، بحيث اعتبر المجتمع الدولي أنه بدأ يخسر نفوذه في لبنان، وأن إيران عبر حزب الله تفرض نفوذها، ولم يساعد انتخاب الرئيس ميشال عون بهذه الطريقة، ومن بعدها فوز حزب الله وحلفائه في انتخابات 2018، ومن ثم تلتها حكومة حسان دياب. لذلك المجتمع الدولي اعتبر نفسه غير معني بلبنان، لا مساعدات، ولا حتى مودعون عرب أو أجانب، كأنه يقول حسناً تريدون الفوز بالسياسة، وفي ظل وجود السلاح، ها نحن سحبنا بساط الاقتصاد من تحت أقدامكم”.

شارك المقال