المودعون يُعاقبون بأموالهم لإنقاذ المصارف

هدى علاء الدين

تُشكل أموال المودعين لغزاً من ألغاز الأزمة التي وقع لبنان فيها منذ العام 2019، تبخرت خلالها هذه الأموال والتي كانت تبلغ حينها حوالي 120 مليار دولار بين ليلة وضحاها. إما تهريباً أو صرفاً على سياسة دعم عشوائية أو دعماً لقطاعات مفلسة أو دين لدولة لم تُحسن إدارة أموالها، خسر اللبنانيون أموالهم من دون وجود أي مساعٍ جديةٍ توقف هذا النزيف الذي بدأ بسحب قيمة دولاراتهم على سعر صرف 3900 ومن ثم 8000 ولاحقاً وفقاً للتعميم 161. 

أسئلة بلا أجوبة

أسئلة كثيرة تدور في أذهان المودعين، لا تزال للعام الثالث على التوالي بلا أجوبة واضحة من المصارف والمصرف المركزي والدولة. ثلاثة أطراف لا تزال تتقاذف كرة الاتهام والتنصل من مسؤولية صرف أكثر من 70 مليار دولار وهي قيمة الخسائر المالية التي يريد واضعو خطة التعافي المالي تحميلها للمودعين على الرغم من عدم الاتفاق عليها واستخدام كل طرف مفاعيل هذه الخطة وفقاً لأهدافه. مصرف لبنان الذي فصّل بلسان حاكمه رياض سلامة نتائج التدقيق في حساباته بين العامين 2010 و2021، أظهر كيف استنزفت الدولة 62 مليار دولار “فريش” من المصرف خلال هذه الفترة، أبرزها ما نتج عن إقرار سلسلة الرتب والرواتب، فضلاً عن نفقات فرضت بناءً على قوانين وتشريعات بقيت حبراً على ورق. وفي ما يتعلق بأموال المودعين، أشار الحاكم إلى أنها تعتمد على الخطة التي ستتبناها الحكومة، معتبراً أنها تتضمن خطوطاً عريضة من دون أي تفاصيل. أما المصارف التي تعاني منذ بدء الأزمة من مشكلات سيولة عرّضت أموال المودعين للخطر، فقد دعاها نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي إلى البدء أولاً بتحمل الخسائر الناجمة عن الانهيار من خلال رؤوس أموالها وإلى تقديم تضحيات قبل المس بأي مودع.

في حزيران العام 2021، بشّر حاكم مصرف لبنان المودعين بإمكان سحب كل واحد منهم 50 ألف دولار وذلك بالتقسيط خلال مدّة خمس سنوات من حساباتهم المقوّمة بالعملات الأجنبية، على أن يكون نصف المبلغ بالدولار النقدي، في حين سيتم دفع النصف الآخر بالليرة اللبنانيّة وفق سعر منصة “صيرفة”. اليوم وبعد مضي عام على حديث الحاكم، لم يحصل المودعون على ما وُعدوا به، ليأتيهم حديث الشامي الذي أشار فيه إلى أن هدف الحكومة هو إعادة ما يصل إلى 100 ألف دولار من مدخرات المودعين بمرور الوقت، كاشفاً عن أن المصارف تملك أصولاً بالعملة الأجنبية لتغطيتها من خلال احتياطيات البنك المركزي والسيولة في النظام المصرفي وودائع البنوك المراسلة والقروض للقطاع الخاص.

عملية نقل للثروة

أما عن فكرة إنشاء صندوق ثروة سيادي لإدارة أصول الدولة على نطاق واسع، فقد عارض الشامي دمج هذه الإيرادات في خطة السداد لأنها لن تكون قادرة على سد الفجوة في الخسائر، خصوصاً وأن استخدام أصول الدولة يبقى غير كاف لتغطية هذا الحجم غير المسبوق من الخسائر التي تُقدر بأكثر من 70 مليار دولار، في حين أن قيمة هذه الأصول تتراوح بين 11.6 و21.5 مليار دولار، وذلك بحسب دراسة أجرتها مؤسسة “كلنا إرادة”، التي أشارت إلى ضرورة إجراء مراجعة كاملة وإعادة تخمين للأصول العامة كافة، مؤكدة أن هذه الأصول هي ملك لجميع اللبنانيين ولا يمكن استخدامها لتعويض خسائر القطاع المالي. واعتبرت المؤسسة أن إنقاذ المصارف من خلال استخدام المال العام لن يفيد إلا قلة من أصحاب الامتيازات وكبار المودعين ومساهمي المصارف مقابل تقويض حقوق غالبية اللبنانيين، إذ يتّسم توزع الودائع بتركز شديد بحيث يستحوذ أقل من 1 في المئة من المودعين على مجمل الحسابات التي تزيد قيمتها عن 200 ألف دولار. وبالتالي لن يكون الاستخدام المباشر للأصول العامة سوى عملية نقل للثروة إلى أغنى شريحة في المجتمع، وهي سياسة توزيع عكسية مجحفة ستزيد من اللامساواة. واعتبرت الدراسة أن هذه المقاربة تنطوي على تأثيرات كارثية على عموم اللبنانيين وسيُجرّد المجتمع من الموارد الاستراتيجية التي يمكن استخدامها لإعادة تحريك الاقتصاد، وبالتالي يُعرّض مستقبل اللبنانيين للخطر خدمة لمصالح قلة قليلة من المُقتدرين. ولفتت إلى أنه لا يمكن خصخصة الأصول العامة في ظل إطار الحوكمة الحالي وغياب البيئة التنظيمية السليمة وأطر تعزيز المنافسة العادلة والشفافية في إدارة المناقصات العامّة، ما يولد احتمال بيع الأصول العامة إلى استمرار سيطرة السلطة القائمة على مقدرات الدولة.

المساهمون أولاً

أشارت الدراسة إلى وجوب الالتزام بتوزيع الخسائر وفقاً لتراتبية المسؤوليات المعتمدة دولياً، بحيث تأتي أسهم المساهمين أولاً. كما يجب إخضاع مختلف شرائح الودائع وفئات المودعين لتصنيف دقيق، تُحدد على أساسه الأولويات والمعاملات التفضيلية بالاستناد إلى قيمة الحسابات وطبيعتها أي الشركات مقابل الأفراد، واللبنانيون مقابل الأجانب، والمدخرات الفردية مقابل صناديق التقاعد. هذا فضلاً عن استرداد الأرباح السابقة الموزعة على المساهمين في المصارف والفوائد الطائلة المدفوعة لبعض المودعين، الهيركات على الودائع الكبيرة ولا سيما ودائع أصحاب المصارف، الليلرة المحدودة، تمديد آجال استحقاق الودائع، تحويل الودائع الكبيرة إلى أسهم عادية أو ممتازة أو سندات ثانوية، وإعطاء الأولوية لصغار المودعين وصناديق التقاعد عند توزيع الموارد المُتاحة بحيث يعد ذلك التزاماً واضحاً بالعدالة الاجتماعية. أما تعويض الودائع الكبيرة فيرتبط بالقدرة على تطبيق مبدأ الشفافية والمحاسبة عبر إجراء تدقيق في الودائع والتحويلات من أجل تحديد الأموال غير المشروعة والأموال المهرّبة والمودعين الذين استفادوا من معاملةٍ تفضيلية، خاصة بعد تشرين الأول 2019. واعتبرت الدراسة أن استمرار مصرف لبنان باستنفاذ العملات الأجنبية وسياسة ليلرة الودائع يُهدد أي حل عملي لتوزيع الخسائر بشكل عادل. كما أن العرقلة المستمرة لإعادة هيكلة القطاع المالي على مدار العامين ونصف العام الماضيين أدّت إلى التفريط بما كان يُمكن إعادته إلى المودعين. وبحسب معدل النزف اليومي بالعملات الأجنبيّة، والمُقدر بنحو 20 إلى 30 مليون دولار، فمن المرجح أن تجف العملات الأجنبية بالكامل بحلول نهاية العام. من هنا، يجب إقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل عاجل بالتزامن مع مراجعة جودة أصول كل مصرف على حِدة، وأن يترافق مع إصدار قانونين إضافيين هما إلغاء السرية المصرفية وفرض ضوابط على رأس المال. كما يجب فصل تعويض المودعين عن مسألة الأصول العامة التي تبقى سبل إدارتها أولوية رئيسة في المرحلة المقبلة، على أن تتضمن شراكات بين القطاعين العام والخاص وصولاً إلى الخصخصة.

مصير الودائع

تُشير مصادر “لبنان الكبير” إلى أن 12 مليار دولار هي كل ما تبقى من احتياطي من العملة الأجنبية لدي المصرف المركزي أي ما يعادل 10 في المئة فقط من أموال المودعين، معتبرة أن كل الحلول المطروحة لا يمكن العمل بها إن لم يتم التعاون بين الأطراف الثلاثة الرئيسة المتمثلة في الدولة والمصارف ومصرف لبنان، من أجل تحمل المسؤولية كل بحسب دوره ومقدرته، إذ لا يجوز تحميل المودعين ولا سيما الصغار منهم العبء الأكبر. ولفتت إلى ضرورة التمييز بين الودائع وعدم التعامل معها بطريقة استنسابية لا تراعي مبدأ العدالة.

وعن مصير هذه الودائع، وما إذا كان أصحابها سيحصلون عليها أو على جزء منها بالدولار، تقول المصادر: “إن الإجابة عن هذا السؤال تبقى رهن الالتزام بإجراء الإصلاحات وعودة تدفق العملة الخضراء وإعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يبقى وجوده أحد الركائز الأساسية للنهوض بالاقتصاد من جديد”. وأكدت أن مهمة إعادة أموال المودعين ستكون بمثابة التحدي الأكبر للحكومة المقبلة التي يجب عليها العمل على حماية المودعين الذين هم الحلقة الأضعف منذ بداية الأزمة المالية التي أطاحت بكل ما يملكون وجعلت الآمال في الحصول على أموالهم في القريب العاجل أمراً في غاية الصعوبة.

شارك المقال