هل يكشف رفع السرية المصرفية المستور؟

هدى علاء الدين

اعتمد لبنان قانون السرية المصرفية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان لها الدور الأكبر في استقطاب رؤوس الأموال والودائع وتحقيق مناخ من الاستقرار الاقتصادي والمالي. وقد أطلق حينها على لبنان لقب “سويسرا الشرق” بسبب اعتماده هذا القانون الذي تحوّل مع مرور السنوات إلى عقبة تمنع مكافحة الجرائم المالية كتبييض الأموال والتهرب الضريبي بسبب سوء تطبيقه وتغلغل الفساد فيه. لبنان الذي علّق العمل بالسرية المصرفية في العام 2020 لمدة عام يستعد الاثنين المقبل لطرحه أمام الهيئة العامة كأحد الشروط الأساسية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي. فهل ينجح في إقراره؟

نقص في التطبيق

في هذا الإطار، رأى الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفسور مارون خاطر في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن “من الطبيعي بل من الموجب تحديث القوانين القديمة العهد كقانون السرية المصرفية”. وفي سياق متَّصل أشار إلى أن “المشكلة في لبنان ليست في التشريع بل في عدم تطبيق القوانين والتحايل والتمرّد عليها. فهناك عدد كبير من القوانين التي تهدف إلى محاربة الفساد وتبييض الأموال وقد أُنشئت لهذا الغرض هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي”.

وبحسب خاطر، “لا يجب الاستمرار في إعتبار السرية المصرفية كأحد أبرز الحوافز التي ستُسهم في ازدهار لبنان من جديد”، إلا أنَّه شدَّدَ على أن “رفعها خارج إطار خطة تعافٍ قابلة للتنفيذ قد يؤدي الى إستنسابية مفرطة في التنفيذ لصالح الفساد وأهله”.

وعن المستفيدين من هذا القانون، قال خاطر: “إن الشعب اللبناني بأكمله هو المستفيد شرط أن يكون الهدف منه زيادة الشفافية وتمكين الدولة من الحصول على المعلومات المطلوبة وهذا أمر مستبعد الحدوث”. أما عن المتضررين، فاعتبر أنَّه ليس هناك من أحد متضرر “خصوصاً من الطبقة الحاكمة وإلا لما وصل هكذا قانون إلى مجلس النواب”، لافتاً إلى أن “أركان السلطة يدركون حتماً أن هذا القانون يستغرق وقتاً طويلاً للتنفيذ ولن يطال من هو متجذر في الفساد أو من لديه غطاء أو نفوذ واسع يحتمي به”.

الثقة بالمصارف

وعن تداعيات رفع السرية المصرفية على القطاع المصرفي، أوضح خاطر أن النظام المصرفي اللبناني يُحتضر اليوم بسبب فقدانه ثقة المتعاملين معه وليست السريَّة المصرفيَّة هي من ستعيده الى سابق عهده أو تتركه لقَدَرِه. فالمطلوب بحسب خاطر خطة ذكيَّة لإعادة هيكلة القطاع تحضيراً لاستعادةٍ تدريجيَّةٍ للثقة وهي مهمَّة على درجة من التعقيد.

الاستقرار السياسي

وهل سيغير رفع السرية المصرفية من نظرة المودعين والمستثمرين على المدى الطويل، شدَّدَ خاطر على أن هذه النظرة تغيرت بسبب تزعزع الثقة وضرب مصداقية المصارف، إلى جانب ما ورد في بنود خطة التعافي الاقتصادية والتي تحمّل المصارف والمودعين نتائج الأزمة التي سببتها الدولة بالدرجة الأولى، “فالفاسدون ليسوا في المصارف وحسب، إنما في الدولة أيضاً”.

أضاف: “بالتالي، فإن النظرة المستقبلية للقطاع المصرفي لا ترتكز على السرية المصرفية بقدر إرتكازها على عودة القطاع المصرفي إلى الحياة واسترجاع الثقة به وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل، وتفعيل مفهوم استقلالية القضاء، إلى جانب الكثير من العوامل التي تفرضها الحوكمة المؤسسية والتي تنص على ضرورة تأمين الاستقرار السياسي وإرساء دولة العدالة والقانون في جو ديموقراطي حقيقي”.

أما عن مستقبل لبنان ومستقبل قطاعه المصرفي، فرأى خاطر أن شيئاً لن يصلح، سواء بقيت السرية المصرفية أو ألغيت، ما لم نذهب إلى حلول شاملة تنطلق من السياسة، آملاً الإبقاء على نواة هذه الميزة مع تشديد ضوابط تطبيقها والعمل على استقطاب المستثمرين ورؤوس الأموال من خلال إرساء إستقرار سياسي وتأمين البنية التحتية لتحفيز الاستثمار، وتفعيل عمل القضاء للعمل وتخفيف الوقع السياسي عليه ومحاربة الفساد. فهذه العوامل لو توافرت مجتمعة ستجعل القطاع المصرفي فاعلاً من دون سرية مصرفية، خصوصاً وأن الأنظمة التوتاليتارية التي كانت تحيط بلبنان في الخمسينيات تبعثر أكثرها اليوم.

الإصلاح لن يحققه القانون

وعما إذا كان قانون رفع السرية المصرفية هو المدخل نحو الاصلاح المالي والمصرفي، اعتبر خاطر أن كل الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج كانت على مرأى من هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي والتي هي قادرة على التحرك من دون إخطار، فهل رفع قانون السرية المصرفية في ظل قضاء مسيّس لا يعمل هو الذي سيحقق الإصلاح المنشود؟. وفي سياق متَّصل سأل خاطر “هل التهرب الضريبي سواء كان Tax Evasion أوTax Fraud يحصل بسبب السرية المصرفية أم بسبب الفساد المستشري في إدارات الدولة كافة وخاصة في الإدارات الرقابية التي تحتاج إلى تطبيق قانون الإثراء غير المشروع وعلى أساسه يطلب القضاء رفع السرية المصرفية على كل مشتبه به؟”. وشدّد على أن الإصلاح لن يحققه القانون بل يتحقق عبر تطبيق القوانين النافذة وتعديلها وعبر التحول الى حكومة إلكترونيَّة.

وبناء على ما تقدَّم، قال خاطر: “لا يُنتظر من إقرار قانون كرفع السرية المصرفية أن يكون هو خشبة الخلاص للبنان لناحية الإصلاح الذي كان يمكن تحقيقه عبر تنفيذ القوانين النافذة وتحديداً القانون الذي يرعى عمل هيئة التحقيق الخاصة وقانون الإثراء غير المشروع والقوانين الرقابية كافة. كما أنه ومع وجود الاقتصاد النقدي الذي كرّسته خطة التعافي الاقتصادية عبر عزمها على إعدام المصارف سيجعل من قانون رفع السرية المصرفية بلا جدوى لأنه لن يكون هناك أي عمليات مالية عبر المصارف اللبنانية بل إستدامة الـCash Economy إلا لمن لديه الـ Records تسمح له بالاستيراد والتصدير بطريقة شرعية. فكيف يساعد رفع السريَّة في الوصول إلى المعلومات إن لم تبق مصارف لرفع السرية؟”.

تفاوض حقيقي

وفي حال لم يوافق المجلس النيابي على إقرار هذا القانون، كيف سيؤثر ذلك على سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لا سيما أنه يُعد أحد شروطه الأساسية، أكد خاطر أن التفاوض مع صندوق النقد يجب أن يكون تفاوضاً حقيقياً وليس خضوعاً لشروطه إن كان على مستوى توزيع الخسائر أو على مستوى “الكابيتال كونترول” والسرية المصرفية وتوحيد سعر الصرف والموازنة. فيجب على من يفاوض صندوق النقد أن يشرح له خصوصية الوضع اللبناني لأن هناك الكثير من الشروط التي يطلبها الصندوق تنفذها الحكومة اللبنانية بالشكل ولا ترقى إلى مستوى الإصلاحات. على سبيل المثال، طُلب من لبنان وضع موازنة عامة فكانت الأسوأ وهي في الواقع غير قابلة للتطبيق، كذلك بالنسبة الى خطة التعافي الاقتصادية فهي تضرب مستقبل لبنان وتتناقض مع الاصلاحات القادمة والتي منها قانون السرية المصرفية لأنه وبحسب الخطة لن يعود هناك قطاع مصرفي موثوق به وبالتالي لا يمكن الذهاب إلى تتبع حركة تدفقات الأموال عبره.

في الوضع الحالي، نعم سيكون عدم إقرار قانون رفع السرية المصرفية عائقاً لتقدم المفاوضات مع صندوق النقد، أكد خاطر، لكنه في المقابل لفت إلى أن حتى الصندوق من جهته يُمهل لبنان ويحاول تمرير الوقت إلى العام 2023 أي ما بعد انتخابات رئاسة الجمهورية. وعليه، فإن كل ما يتمّ إقراره من الموازنة وصولاً إلى خطة التعافي ومروراً بقانون “الكابيتال كونترول” الذي سقط مرات عدة في المجلس النيابي، إلى جانب العمل اليوم على إقرار قانون رفع السرية المصرفية والكلام عن توحيد سعر الصرف لا يمكن السير بها بالتجزئة، بل لا بدّ من القيام بهذه الإجراءات بطريقة موحدة كجزء من خطة اقتصادية شاملة تُقر من قبل الحكومة وتُواكب من مجلس النواب عبر إقرار المشاريع الإصلاحية دفعة واحدة.

وختم خاطر بالقول: “إن عدم إقرار قانون رفع السرية المصرفية هو مؤشر سلبي لناحية عدم التزام لبنان بشروط الصندوق، لكن في المقابل يبدو وكأن صندوق النقد يؤجل الحسم في الملف اللبناني إلى ما بعد نهاية العهد الرئاسي الحالي”.

شارك المقال