ما بين الخليل وميقاتي: زلة لسان أم جس نبض؟

هدى علاء الدين

يعيش لبنان فوضى القرارات الدولارية في ظل غياب الرؤية الاقتصادية التي أغرقت اللبنانيين في مستنقع من الفوضى والعشوائية، حتى أصبحت هذه القرارات في معظمها ارتجالية وآنية لا تمتلك أية أسس أو معالم واضحة، يتم تداولها إعلامياً عبر تصريحات أو مقابلات تلفزيونية تبث الرعب وتخلق حالة من الارتباك والبلبلة وتسبّب المزيد من الاضطرابات في السوق السوداء. ففي ومضة عين، قرّر وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل تغيير سعر الصرف الرسمي الذي تمّ تثبيته أواخر التسعينيات من 1507.5 ليرات إلى 15000 ليرة، محدداً موعد التنفيذ في نهاية تشرين الأول المقبل. وبعد أقل من 24 ساعة، أوضحت الوزارة أنّ تغيير سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار سيتم على خطوتين: الأولى على صعيد الدولار الجمركي، والثانية على صعيد سعر الصرف الرسمي المراد اعتماده بالتنسيق مع المصرف المركزي والذي يعتبر خطوة أساسية بإتجاه توحيد سعر العملة الوطنية، وهو مشروط بإقرار خطة التعافي التي يعمل عليها والتي من شأنها أن تواكب تلك الخطوة.

حالة البلبلة والضجة التي رافقت قرار وزير المال، دفعت رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى التوضيح أن لبنان سيطبق سعر صرف رسمي جديداً يبلغ 15000 ليرة للدولار تدريجياً مع استثناءات أولية لتشمل رساميل (أصول) البنوك وسداد قروض الاسكان والقروض الشخصية التي ستستمر على السعر الرسمي القديم، مشيراً إلى أن الفجوة بين سعر السوق البالغ 38000 ومعدلات أخرى يجب أن تغلق عاجلاً أو آجلاً، إذ لا يمكن أن تبقى هذه الهوة الكبيرة بين ما يسمى سعر الصرف الرسمي وسعر صرف السوق. وإذ طمأن ميقاتي الى أن لا شيء سيحصل فوراً وفجأة “مثلاً اليوم يقولون القروض المأخوذة بالدولار تسدّد على أي سعر؟ عندنا الأشخاص الطبيعيون الذين أخذوا قروضاً لسكنهم أو أشيائهم الشخصية، هذه سيظل سعرها، وستعطى فترة زمنية تبقى تسدّد على 1507 ليرات”، لفت إلى أن سعر الـ 15000 ليرة سينطبق مبدئياً على الرسوم الجمركية وعلى البضائع المستوردة وعلى القيمة المضافة، على أن تشهد الفترة الممتدة من الآن إلى الأول من تشرين الثاني تعاميم من حاكم مصرف لبنان وقرارات تُحدد الاستثناءات المطلوبة. فهل وقع الوزير في فخ زلة اللسان أم تعمّد الإفصاح عن النوايا المخبأة في الفترة المقبلة كنوع من جس النبض لسعر صرف جديد؟

في الشكل، أتى قرار الوزير تلبية لمطلب صندوق النقد الدولي بضرورة إلغاء تعددية أسعار الدولار والاعتماد على سعر موحد يعمل على خفض قيمته في السوق السوداء. أما في المضمون، فالقرار لم ينضج توقيته بعد نظراً الى عدم تهيئة البيئة المالية والاصلاحية له. فالانتقال إلى هذه المرحلة يجب أن تسبقه قرارات إصلاحية عدة تمهد الطريق بصورة سليمة لتفادي تبعاته، خصوصاً وأن أي تعديل في سعر الصرف الرسمي يجب أن تقابله حزمة إجراءات وقائية تمنع آثارها التضخمية وانعكاسها المباشر على سعر الدولار في السوق الموازية صعوداً.

قرار الوزير الذي صدم الوزراء الزملاء لم يلق أي صدى إيجابي بل شكّل مفاجأة للعديد منهم، إذ كيف لقرار كهذا أن يتخذ ويعلن بصورة منفردة من دون إجماع وزاري ودراسة معمقة تأخذ في الاعتبار قدرة المواطنين على تحمل سداد الرسوم والقروض والدولار الجمركي بزيادة عشرة أضعاف دفعة واحدة؟ الساعات المليئة بالضغوط الكثيرة كانت كفيلة بتراجع الوزير عن قراره، في ظل التساؤلات على عاتق من تقع صلاحية تحديد سعر الصرف الرسمي الجديد؟ وهل الاعلان عنه بهذا الشكل يعدّ قانونياً أم يحتاج إلى تشريع جديد؟

ليست المرة الأولى التي يقدم فيها مسؤول رسمي على خلق بلبلة جراء قرار أو تصريح ما، فقد اعتاد اللبنانيون على مثل هذه المواقف التي أصبحت تتكرر بصورة متواصلة. فإرضاءً لصندوق النقد الدولي، أقرّ المجلس النيابي موازنة العام 2022 على الرغم من الشوائب والثغرات التي تحتويها، وتنفيذاً لوعد الحكومة موظفي القطاع العام بزيادة رواتبهم، قرّر وزير المال تغيير سعر صرف الدولار الرسمي إلى 15000 ليرة، لتغرق حكومة تصريف الأعمال من جديد في قراراتها العشوائية المتكررة في انعكاس واضح لحالة التخبط التي تعيشها منذ ولادتها، والتي غالباً ما تكون انعكاساتها أشد قسوة من الفوائد المرجوّة منها، علماً أن اللبنانيين لم يجدوا حتى الساعىة خيراً في أي قرار مالي أو نقدي.

حتى اليوم، لا تزال حكومة ميقاتي مفتقدة لقاعدة متينة تستطيع من خلالها بناء اقتصاد قادر على النهوض من جديد بالقطاعات الخدماتية والانتاجية كافة بفعل فقدان المفاتيح الأساسية لتحقيق ذلك، وعلى رأسها إجراء الاصلاحات الهيكلية اللازمة وتحديث السياسات المالية والنقدية لزوم المرحلة المقبلة، وجلّ ما تفعله هو إغراق اللبنانيين في دوامة دولارية مدمرة كتغطية لفشلها في الاصلاح.

شارك المقال