عجز ميزان المدفوعات… الأسوأ لم يأتِ بعد

المحرر الاقتصادي

على الرغم من أهمية مؤشر ميزان المدفوعات لبناء تصور أكيد عن الحالة الاقتصادية لأي بلد، إلا أن أرقامه تراجع تداولها في لبنان في الفترة الأخيرة، مع العلم أنه مؤشر بالغ الأهمية كونه يعكس حجم الفجوة بين الدولارات التي تدخل الى لبنان وتلك التي تخرج منه، ويعطي صورة عن مدى قدرة لبنان على وقف نزيف سعر صرف العملة المحلية وبدء الخروج من الأزمة النقدية والمالية التي تحتاج فيها البلاد الى عملات أجنبية في فترة التعافي المالي.

يتألف ميزان المدفوعات بصورة رئيسة من الميزان التجاري وميزان الرساميل؛ الأول لطالما سجّل عجوزات تاريخية في لبنان المستورد لأكثر من 80 في المئة من استهلاكه – بمعنى أن وارداته كانت على الدوام تفوق بأضعاف حجم صادراته -، فيما الثاني يدل على عملية دخول الرساميل وخروجها، والتي تتأتى من مصادر مختلفة بين أموال يرسلها المغتربون الى ذويهم وأقربائهم توظف على شكل ودائع مصرفية أو من خلال شراء عقارات أو استثمارات معينة، أو من الاستثمار الأجنبي المباشر، أو من عائدات السياحة التي كان يعتمد عليها كثيراً في السابق لتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات تعوض بعضاً من عجز الميزان التجاري الكبير.

ولا تدخل ضمن هذه الحسابات الأموال التي تدخل الى لبنان نقداً أي من خارج النظام المالي، معظمها من خلال المغتربين الذين يرسلون أموالاً “كاش” والذين توافدروا بأعداد كبيرة هذا العام حاميلن معهم “شنطاً” من النقود.

وفق تقديرات غير موثقة لوزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصار الذي قدَّر عدد السياح والوافدين بنحو 1.5 مليون، منهم 75 في المئة من اللبنانيين المغتربين، فان الايرادات السياحية ناهزت الـ4.5 مليارات دولار.

3.1 مليارات دولار هي قيمة العجز التراكمي المسجل في تسعة أشهر من العام الحالي، في مقابل 1.6 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، ونحو 9 مليارات دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 بعد انفجار الأزمة الاقتصادية المركبة.

العجز المسجل هذا العام يعزى إلى تقلص الموجودات الخارجية الصافية لدى مصرف لبنان بمقدار 3.3 مليارات دولار، في مقابل زيادة في الموجودات الخارجية الصافية لدى المصارف بقيمة 200 مليون دولار في الفترة المذكورة.

أما السبب الرئيس في ارتفاع عجز ميزان المدفوعات الى هذا الحد في الأشهر التسعة الأولى من العام، فيتمثل في ارتفاع تكلفة استيراد المحروقات في ظل ارتفاع أسعار النفط عالمياً. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الاميركية أن يسجل سعر خام برنت مستوى 102.13 دولار للبرميل في 2022، بعدما كان بلغ في المتوسط 70.89 دولاراً للبرميل عام 2021، ارتفاعاً من 41.69 دولاراً للبرميل في 2020.

وكما هو معلوم، حين ترتفع أسعار النفط، لا ترتفع فاتورة استيراده فقط، بل تلحق بها أيضاً فاتورة استيراد سائر المواد التي تدخل تكلفة المحروقات في تسعيرتها.

أما في ما يتعلق بالميزان التجاري، فسُجلت زيادة نسبتها 40.7 في المئة في العجز المسجل، أي الفارق بين الصادرات والواردات، خلال سبعة أشهر.

بحسب الأرقام الواردة عن ادارة الجمارك، ارتفعت الواردات الى 10.5 مليارات دولار من 7.8 مليارات دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، في حين سجلت زيادة طفيفة في الصاردات الى 2.1 ملياري دولار من 1.9 مليار دولار. وهو ما انسحب اتساعاً في عجز الميزان التجاري الى 8.4 مليارات دولار من 6 مليارات في الأشهر السبعة الأولى في 2022. ومن خلال هذا المسار، يتوقع أن يتخطى هذا العجز عتبة الـ12 مليار دولار في نهاية العام الحالي.

السبب الأبرز في تنامي عجز الميزان التجاري هو مسارعة التجار والمستوردين الى استيراد سلع الى السوق المحلية وتخبئتها، وذلك من أجل الافادة من الهامش بين مستوى الرسوم الجمركية الحالية التي لا تزال تحتسب على أساس سعر صرف هو 1500 ليرة لكل دولار، وبين مستوى الـ15 ألفاً والمعروف بالدولار الجمركي. يضاف الى ذلك بالطبع عامل التضخم العالمي للأسعار لاسيما أسعار النفط والمواد الأولية التي سجلت ارتفاعات كبيرة هذا العام.

في الخلاصة، المشهد اليوم بات كالتالي: عجز كبير في الميزانين في ظل شبه غياب لدخول رساميل، واستمرار في تدهور سعر صرف العملة، وتنامي حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان، وانخفاض مطرد لاحتياطيات العملات الأجنبية التي وصلت الى حدود الـ10 مليارات دولار، وتعثر في بلوغ اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي يمنح لبنان 3 مليارات دولار تشكل بداية لدخوله مجدداً النظام العالمي. وفي المقابل، شغور رئاسي لا يبدو حله قريباً، وحكومة غير مكتملة الصلاحيات بعد تعثر تشكيل أخرى جديدة عقب الانتخابات النيابية في أيار الماضي، وهو أمر يفرض حكماً جموداً قسرياً لمعالجات وإصلاحات واجبة يمكن أن تضع لبنان على سكة التعافي الاقتصادي.

لا يبدو أن هناك نهاية قريبة لهذا الأفق المظلم في ظل استمرار مقاربة الملف السياسي بالطريقة التي تجري فيها اليوم. فكيف ستكون الأيام المقبلة، لاسيما وأن “الأسوأ لم يأتِ بعد” وفق توصيف صندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي في 2023؟

شارك المقال