موسم الاصطياف “مقلّع”… وتخوف من فرملته سياسياً

هيام طوق
هيام طوق

” إنه كابوس حقيقي عشناه على مدى سنتين، نأمل أن تساعدنا الظروف لكي نستيقظ منه، ونلتقط أنفاسنا وإلا على الدنيا السلام”. إنه لسان حال أصحاب المؤسسات السياحية من فنادق ومطاعم ومقاهٍ وملاهٍ، التي تعتبر من أكثر القطاعات التي عانت من تبعات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والمالية مع خسارة الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، وانتشار فيروس كورونا، وما رافقها من إقفالات متتالية، ليأتي انفجار مرفأ بيروت ويقضي على الحجر كما على البشر. لكن اللبنانيين الذين لطالما عُرفوا بحبهم للحياة وبسرعتهم في نفض غبار الأيام المرة، لا يقبلون إلا التحليق كطائر الفينيق، في دنيا الفرح والموسيقى والسهر واللهو. ها هم اليوم، يعضّون على جرح خساراتهم المتتالية، وينطلقون على قدم وساق في التحضيرات، وإعداد العدة الكاملة لإنجاح موسم اصطياف، لا تعكر صفوه أحداث أمنية من هنا وأخرى اجتماعية من هناك، علّه يستطيع، بلسمة جراحهم النازفة، والتعويض ولو بشيء قليل عما خسروه، خصوصاً أولئك الذين تضرروا من انفجار المرفأ، مع العلم أن خمسين في المئة من المؤسسات السياحية أقفلت أبوابها، إما نهائياً أو مؤقتاً، علّ الأوضاع تتحسن، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.

لبنان “لؤلؤة المتوسط ” والذي عرف أيضاً قبل الحرب الأهلية بأنه “سويسرا الشرق”، لتميّزه بكل مقومات السياحة، يصارع اليوم ليبقى على قائمة البلدان السياحية، مع شبان يرفضون ترك البلد الذي يمر في أحلك الأوضاع، وفي ظل أسوأ أزمة اقتصادية، لأنهم يحبون وطنهم رغم ضبابية المستقبل، ورغم الفواتير الباهظة التي يدفعونها ثمن قرارات مسؤولين ليس لديهم أي نوع من المسؤولية، فيتركون البلد يتخبط في مشاكله التي ستودي به إلى قعر جهنم، إذا لم يعملوا، وبسرعة قصوى، على تفكيك العقد السياسية قبل لحظة الارتطام/ حيث لا يعود ينفع البكاء على الأطلال. لكن، بعيداً عن سوداوية المشهد السياسي الذي ينذر بأيام صعبة قادمة، فإن جولة على الشواطئ البحرية في جونيه وجبيل والبترون وشكا، وسواها من المناطق الساحلية، كفيلة بتبديد كل المخاوف والهواجس، حيث إن زحمة الرواد الذين يسبحون، يمرحون، يرقصون، يمارسون شتى أنواع الرياضات البحرية، يتمتعون بشمس حزيران، وكأن البلد بألف خير، ما يدعو إلى التساؤل: هل هو حب اللبناني للحياة يجعله يتخطى كل الصعاب، ويعود إلى حياته الطبيعية في أوقات قياسية بعد كل أزمة؟ أم أنه تأقلم مع مشاكله التي لا تنتهي، فأصبحت توأم روحه، ولن تقف حجر عثرة في طريقه للسير قدماً تحو حياة مفعمة بالحياة؟ أياً كان السبب، لا يهم، فالنتيجة واحدة: اللبناني عصيٌّ على الموت، متشبث بالحياة حتى الرمق الأخير. وهذا ما يظهر جلياً عند التحدث مع أولئك الرواد الذين لا يأبهون لا بالسياسة ولا بالسياسيين “لأنو ما بيجي من وراهن إلا وجعة الراس والمصايب وما رح نسمحلن يقرروا مصيرنا وطريقة عيشنا”. كلمات تتردد على كل شفة ولسان، لأن أولئك الناس لا يريدون سوى العيش بطمأنينة وراحة بال إلى جانب عائلاتهم وأقاربهم وأصدقائهم، ويمضون معهم أوقاتاً لا تُنسى، إن كان على شاطئ بحر أو في أي مكان آخر، خصوصاً وأنهم يريدون التعويض عن كل أوقات الحجر الصحي الذي تسببت به فيروس كورونا، وأبعدت أقرب الناس عن بعضهم.

الكل يتحدث عن ظروفه الصعبة، وعن وضعه الاقتصادي والمالي غير المريح، خصوصاً بعد أن أصبحت الليرة “بلا قيمة”، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، لكن الكل أيضاً، مصر على العودة إلى حياته الطبيعية مهما كلف الأمر، وهذا، ما عبّرت عنه الشابة ريما حنا، التي ستأجرت وزملاء لها إحدى الشاليهات على شاطئ في منطقة شكا، فهي أنهت عامها الدراسي منذ أيام قليلة، وتنتظر التخرج بفارغ الصبر، “وأنا هون اليوم مع زملائي لنغير جو وننبسط لأنو إذا بدنا ننطر مشاكلنا تتخلص مش رح تخلص، مع إنو ما بنكر إنو وضعنا المادي تراجع كتير، بس قدرنا جمّعنا من مصروفنا أنا ورفقاتي لنستأجر شاليه، والأسعار نار بس بدنا نغير جو ونعمل برونزاج”. وتبتسم ثم تقول: “أنا باقية هون مش مسافرة لو شو ما صار، لأنو هيدا بلدنا ومش رح نتركه ولا رح نسمحلن ييأسونا تيفلّلونا. نحنا بدنا نفلّلن إذا الله راد، والانتخابات عالبواب، انشاء الله يكونوا الناس تعلموا أيا نوع من الناس انتخبوا”. أما زميلها طوني إلى جانبها، فيخالفها الرأي، ويقول بكلمات قليلة “أنا بهالمشوار عالبحر حبيت ودع لبنان وشمسه لأني مسافر قريباً على دولة أوروبية، لأنو ما بقى ينعاش بالبلد”. الوضع المادي السيئ لا يقتصر فقط على عامة الناس، بل إن صاحب المنتجع الذي تبدو فيه العجقة لافتة، وهو من أجمل المنتجعات في المنطقة، فصرخته طالعة وغضبه عارم “نحنا من ركائز السياحة بلبنان، دفعنا التمن غالي كتير، وعم ندفع للموظفين من أشهر طويلة، وأغلب الأوقات كنا مسكرين إضافة لكل مصاريف الصيانة والكهربا والضريبة وغيرها، والدولة بدل ما تساندنا لنرجع نقوم ما بتعطينا مهلة تندفع ضرايبنا أو تنسدد فواتيرنا”. ثم نظر إلى الأفق البعيد، وتنهد قائلاً: “إيماننا بألله كبير ومش بالدولة، ونحنا ناطرين موسم منيح لأنو الحجوزات مقبولة لحد هلق، بس بدك يخلّونا نقطّع هالموسم ع خير وما يفجروها بشي محل لأنو ما بقى نحمل”.

المشهد نفسه يتكرر في البترون، المعروفة بشواطئها النظيفة، فالأجواء هناك “ولعانة”، زحمة رواد على الشواطئ التي تصدح منها الموسيقى الصاخبة إلى أمكنة بعيدة، وضحكات الناس تملأ الدنيا، وأصوات الأطفال الذين يلعبون بالمياه، ويركضون خلف بالوناتهم الملونة، تنشر الفرح والأمل في النفوس بغد أكثر إشراقاً. هنا، هموم الحياة نفسها، لكن الإصرار على الفرح هو نفسه أيضاً، والوالدة هدى التي اصطحبت أولادها الثلاثة إلى الشاطئ، تعبر خير تعبير عما يجول في خاطر كل أم باتت مسؤولياتها مضاعفة تجاه أبنائها، وتقول:” جبت ولادي عالبحر لأنو نفسيتن تعبت كتير بعد انفجار 4 آب، هني شافوا كل شي عم يتهبّط من حولن لأنو نحنا من سكان منطقة قريبة كتير عالمرفأ. ونحنا بعدنا لهلق ما خلصنا ترميم البيت، ورغم إنو صرنا عالحضيض، وأسعار المسابح غالية علينا بس بدنا نعيش وأهم شي نحاول ننسّي الولاد كل شي عاشوه بالفترة الأخيرة، إن كان بسبب الانفجار أو حتى بسبب كورونا”. أما صاحب المنتجع الذي رفض ذكر اسمه، وبدا العتب في نظرة عينيه على دولة مقصرة بحق شعبها بمختلف طبقاته، علّق على امكانية التعويض خلال هذا الموسم عن خسائر الموسم السابق، بالقول: “لو شو ما اشتغلنا وشو ما حاولنا نخفض أسعارنا ما بقى في شي بوفّي لأنو الغلا فاق كل تصور خصوصي انو الزباين لحد هلق كلن لبنانية ووضعن ع قدن. ان شاء الله هالمسؤولين يأمنوا ظروف منيحة بلكي يجوا السواح العرب والأجانب اللي بحبوا كتير لبنان، وبنستفيد منّن لأنو بيجيبوا معن دولار وهالشي بحرك الاقتصاد كلو”، لافتا إلى أن “بوادر الصيفية تبدو منيحة، ونسبة الحجوزات عنا وصلت لـ80 في المئة بس قلبنا ع إيدنا ما يصير شي ويطيّر كل الحجوزات”.

المطاعم أيضاً التي هي ركن أساسي من أركان السياحة، تكاد تكون “مفوّلة” على مدى أيام الأسبوع، خصوصاً في الليل بعد انتهاء دوام العمل، إذ رحب أصحاب الملاهي والمقاهي كما الزبائن بقرار السماح بالفتح بعد منتصف الليل “لأنو اشتقنا للسهر وللحياة الصاخبة”، كما يقول الشاب شارلي الذي كان يتناول العشاء مع زملائه في العمل في أحد مطاعم أنطلياس. وعن غلاء الأسعار، يؤكد أن ” الأسعار غالية علينا نحنا الموظفين اللي كل شي غلي بالبلد بشكل جنوني بس معاشاتنا بقيت هي ذاتا. بس بدنا نظهر ونعيش، وبما إنو قبضنا من كم يوم، قررنا نجي نسهر سوا قبل ما يطير المعاش اللي ما عم يكفينا لأول أسبوع من الشهر”. وما يتحدث عنه شارلي، يؤيده فيه صاحب المطعم الذي يشير إلى أن ” عم نلاحظ انو وضع الناس المادي كتير تراجع، والزبون اللي كان يطلب أفخم المأكولات والمشروبات اليوم عم يكتفي بالحد الأدنى، ورغم هالشي عم يحس إنو الفاتورة غالية. نحنا عم نحاول قدر المستطاع تخفيض نسبة أرباحنا بس كل شي بوقّف علينا غالي. يعني حركة بلا بركة بس الكحل أحسن من العمى”، مشدداً على ” أهمية مجيء العرب والأجانب لأنن رح يدفعوا بالدولار fresh mone، ونحنا ع نلمس حماس زباينا بالخارج للمجيء إلى لبنان خصوصاً إنو الكلفة أقل من الدول التانية بس الكل ناطر ومتخوف من أي خضة”.

ولعل شهادات عدد من أصحاب المؤسسات السياحية الذين عانوا ما عانوه منذ الحرب الأهلية أن لبنان لا يموت لأن لديه مقومات الحياة وأن الشعب اللبناني لا يموت لأنه يحب الحياة، تجسد الوضع الحالي حيث إنه ما إن أعلن فتح البلد حتى بدأت المؤسسات تستجمع امكانياتها لمواكبة موسم الاصطياف بأبهى حلة، ولم يتأخر السياح اللبنانيون عن مساندة هذه المؤسسات منذ اللحظة الاولى. وما هو لافت جداً هذه السنة أن حركة السياحة في المناطق الجبلية أفضل من العاصمة بيروت، وربما هذه سابقة تسجل في القطاع السياحي لأنه من المتعارف عليه أن حركة السياح في العاصمة تكون أحسن بكثير من المناطق البعيدة، لكن السياح اللبنانيين كسروا القاعدة، حتى إن الأرقام تظهر أن نسبة الحجوزات في المناطق النائية أكثر منها في بيروت.

الأشقر: الموسم “مقلّع” بشكل جيد

وقال نقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر في حديث لموقع ” لبنان الكبير”: ” يبدو أن موسم الاصطياف هذا العام أفضل من السنة الماضية التي شهدت إقفالات متتالية بسبب كورونا، وكان عدد الوافدين حينها، محدوداً جداً. اليوم المطار مفتوح أمام الجميع لأن الوضع الصحي أفضل بكثير”، لافتاً إلى أن ” عدد اللبنانيين الموجودين في الخليج العربي حوالى 450 ألف شخص، واللبنانيين الموجودين في أفريقيا حوالي 225 ألف شخص، أغلبيتهم سيأتون إلى لبنان هذه الصيفية خاصة أن هناك بعض الحواجز الصحية التي تضعها الحكومات على عدد من الدول الغربية”.

وتابع: “هؤلاء سيأتون ومعهم النقد النادر أي الدولار. من جهة أخرى، هناك 700 ألف لبناني من الطبقة المتوسطة الذين كانوا يسافرون ضمن مجموعات سياحية باتجاه قبرص أو تركيا واليونان، اليوم، يقومون بالسياحة الداخلية لأنهم لا يستطيعون الحصول على أموالهم من المصارف، وبالتالي أصبح لدينا ما يقارب المليون ونصف المليون سائح في “القفص الذهبي” أي لبنان”. واعتبر أن “وجود هذا العدد من اللبنانيين السياح، سيؤدي إلى طلب كبير بالنسبة للعرض الموجود، إذ أن المناطق التي ستكون وجهتهم السياحية، هي المناطق النائية التي لا تتمتع ببنية سياحية كبيرة، وطبيعة الاقتصاد العالمي هي عرض وطلب. هذه المناطق ستشهد تطوراً في السياحة الداخلية التي تعتبر رائجة اليوم في لبنان”.

ولفت إلى أن ” الفنادق في بيروت لم تكتمل حجوزاتها لكن عندما تشير الدراسة الاقتصادية لفندق ما أن لديه 30 في المئة حجز مثبت لشهر آب، نعتبر نسبة التشغيل في هذا الشهر ستكون أكثر من 70 في المئة. إذاً هذه مؤشرات تدل على أن موسم الاصطياف مقلّع بشكل إيجابي”.

وأشار إلى أن ” أغلى فنادق ومطاعم وملاهٍ هي الأكثر طلباً. اللبناني يحب أن يعيش نوعية حياة معينة ولا يرضى بمستوى أدنى، إذ أن قسماً من الشعب عنده مداخيل بالدولار، وقسماً آخر تصله الدولارات من الخارج”، مؤكداً أن “نسبة الحجوزات في المناطق النائية والبعيدة عن بيروت أكثر بكثير منها في العاصمة لأنها حجوزات سياحة محلية، وبالتالي من هم في بيروت خلال الصيف، يتجهون إلى المناطق الجبلية الباردة وليس العكس”.

وشدد الأشقر على ” أننا نحن قاطرة أساسية في الاقتصاد اللبناني، والبرهان على ذلك، السياحة الداخلية التي نشهدها، فكيف يكون الحال لو استطعنا أن يكون بين أيدينا ورقة السياحة الخارجية. للأسف، سياح الخليج العربي، ممنوعون من المجيء إلى لبنان لأسباب سياسية، والغربيون يتم تحذيرهم من حكوماتهم، من خطورة المجيء إلى لبنان بسبب الأوضاع الأمنية”، لافتاً إلى أهمية “السياحة الداخلية التي تنهض بالوضع الاقتصادي، وتؤمن الوظائف لعدد كبير من الشباب”.

وأوضح أن “سنة 2010، أدخلنا إلى لبنان 9 مليارات و300 مليون دولار، ونحن اليوم، نطلب المساعدة من البنك الدولي بقيمة مليار أو مليارين. نحن كقطاع سياحي، بإمكاننا إدخال 9 مليارات دولار في حال تحسنت الأوضاع السياسية، وتخلينا عن الخطابات التي تهاجم الأشقاء العرب”، مشدداً على “أننا شعب لا يموت، ومقومات هذا البلد لا تموت، وبرهاناً على ذلك، رغم كل الاوضاع السيئة، منذ أول لحظة فتح فيها البلد، وضعت كل الإمكانيات لفتح المؤسسات، كما أن السياح اللبنانيين يساندون مؤسساتهم للاستمرار”.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً