لبنان “عالمي” الرشوة… والتصنيف لا يُبشر بالخير!

راما الجراح

الرشاوى “على عينك يا تاجر” في الدوائر الرسمية اللبنانية، إذ يضطر المواطن إلى دفع رشوة مالية تفوق قيمتها مبلغ الرسوم الرسمية الواجب دفعها لمالية الدولة، حتى يُنهي معاملته بشكل طبيعي، ولا تنام في أدراج الموظف أشهراً طويلة، كما يحصل مع آلاف المعاملات الأخرى. لا رقابة، ولا هيبة للدولة، إلى استخفاف بالعقوبات التي يمكن أن يتعرض لها الموظف المرتشي والذي غالباً ما يكون محمياً من حزبه أو مرجعيته السياسية.

وأصدرت مؤسسة “Trace International” لائحة بمخاطر الرشوة، صنّفت فيها ١٩٤ دولة. وجاء لبنان في المرتبة الـ٥ إقليميّاً والـ١٣٠ عالميّاً بنتيجة ٥٨، إذ حصل على نتيجة ٥٧ في مجال التعامل مع الحكومة نتيجة الإطار التشريعي المتوسّط والمستوى العالي المتوقّع للرشاوى. وسجّل نتيجة ٧٩ في مجال ردع الرشوة نتيجة المستوى المنخفض لتطبيق إجراءات لردع الرشوة. كما نال نتيجة ٦٨ في مجال الشفافيّة في المؤسّسات الحكوميّة ومجلس الخدمة المدنيّة، وتم تقويم شفافيّة الحكومة بأنها ضعيفة. ونال أخيراً نتيجة ٣٦ في معيار القدرة على الرقابة، بحيث قومت “Trace International” حريّة الصحافة ونوعيّتها ومشاركة المجتمع المدني بالمتوسطّة.

وتُعدّ الرشوة بأشكالها المختلفة من الأمراض المجتمعية الخطيرة التي تنمو في ظل فساد إداري بعيد عن الرقابة الفعالة بل بعيد عن أي وازع ديني وأخلاقي قد يكفي لخلق رقابة ذاتية ربما تُعدّ الأكثر جدوى من أي رقابة أخرى قد تفرضها القوانين والأنظمة والمتابعات الإدارية الأخرى. والمهزلة أنه في لبنان وبشكل شبه يومي هناك راشٍ ومرتشٍ على الصعيد الفردي، وكل فترة هناك فضيحة في هذا الملف وآخرها ما حصل في “النافعة”، وما زالت التحقيقات جارية لكشف ملابسات الفساد في الدائرة وآليات تسجيل السيارات، حيث يُجمِع كثيرون على أنها وكر للهدر والفساد والرشاوى. ونسمع دائماً عن قصص كثيرة تجري من تحت الطاولة لخدمة المواطنين عبر سماسرة على “مد عينك”، يتقاضون رسوماً لوضع إشارة على رخصة القيادة (السواقة) تسمح لحاملها بقيادة دراجة نارية من دون امتحان، إلى فوضى الحصول على دفاتر قيادة دولية وصكوك بيع سيارات والتلاعب بالتسعيرة الجمركية.

وفي لمحة عامة وسريعة على ملفات الرشاوى في لبنان، يمكننا أن نلاحظ تحذيرات المديرية العامة للأمن العام عبر بياناتها فيما يخص رشاوى جواز السفر، حيث تبين في الآونة الأخيرة أن بعض المواطنين يلجأون إلى طرق ملتوية ودفع رشاوى لأي كان بهدف الحصول على جواز سفر بشكل سريع. كذلك، تم رصد أحد موظّفي إدارة واستثمار مرفأ بيروت يقوم بإعفاء بعض التجار من دفع رسوم مرفئيّة، أموالها عائدة لخزينة الدّولة، لقاء رشاوى ماليّة.

وفي فترة الإنتخابات حدّث ولا حرج، وعلى الرغم من تحذير الجمعيات المتخصصة بمراقبة العملية الانتخابية في لبنان، المواطنين، من العواقب القانونية لتلقي الرشاوى الانتخابية بمختلف أنواعها وأشكالها، وطلبها من كل مواطن أن يؤدي دورا مسؤولا ووطنيا من خلال رفض الوقوع فيها، وأن يبلغ عن أي تجاوز للقانون يوثقه، إلا أنها عادت وتقدمت بشكوى مع الوثائق اثر اكتشافها لعدد كبير من الرشاوى الإنتخابية في العديد من الدوائر، ووصلت الأمور إلى رشوة المواطنين عبر تعبئة مياه الشفة لهم في ظل أزمة إنقطاع المياه والغلاء الفاحش.

قانونياً، نصت المادة ٣٥٢ من قانون العقوبات اللبناني على: “كل شخص من الأشخاص السابق ذكرهم التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدّعي أنه داخل في وظيفته أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة”.

وفي هذا الاطار، شددت المحامية ريتا كرم في حديث لموقع “لبنان الكبير” على أنها “تسعى دائماً لتسليط الضوء على أنه في القانون اللبناني في حال البوح والاعتراف من قبل الراشي لتحديد المرتشي ومعاقبته وبالتالي الحد من حال انتشار الفساد يُعفى من عقوبته، ولكن على الرغم من ذلك “عوجه!”. ونرى اليوم المواطن في أي دائرة رسمية يسأل أولاً الموظف إذا كان يقبل الرشوة أم لا!”.

وأضافت كرم: “حتى بوجود تقصير من قبل الدولة، ليس مبرراً أن نستسهل أمور الرشوة، أو نعتبر أن الوضع الذي نعيشه استثنائيا، فبسبب هذا الترقيع المستمر وصلنا إلى مرحلة “فرطت” فيها الأمور، لذلك نحن بحاجة لخطة إصلاح مدروسة، تحل الأزمة شيئاً فشيئاً، وللقيام بدراسة اقتراح تقديم الطلبات وإنجازها “أونلاين”، لتسهيل العمل على المواطن والدولة، وبالتالي نحدّ بشكل كبير من الرشوة”.

بالنسبة للمجتمع، قالت هنادي زعرور، المتخصصة في علم الإجتماع، أن “تصنيف لبنان في هذه المراتب لا يبشر بالخير أبداً وفي الوقت عينه ليس مفاجئاً، فالرشوة آفة مجتمعية قديمة لا يكاد يخلو أي مجتمع من المجتمعات من آثارها، وخطورتها تمسّ الفرد والمجتمع والدولة على السواء، والمعاناة منها تكاد تكون على كافة المستويات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، بل يتعدى أثرها إلى المستوى السياسي أيضا. فهي من الجرائم الفاسدة والمفسدة، وهي تضعف ثقة الأفراد في السلطة العامة ونزاهتها، كما أن انتشارها يؤدي إلى الإخلال بالمساواة بين المواطنين وإثارة الأحقاد والضغائن والتباغض في ما بينهم، ورواج الكيد والغش وكثرة السماسرة المتاجرين بحقوق الناس، حتى يغدو المجتمع غابة يكون البقاء فيها للقادرين على الدفع”.

إذاً، الإصلاح يجب أن يبدأ بالفرد، من أصغر موظف في الدولة إلى أعلى منصب، لأن الرشوة داء لا يمكن الشفاء منه إلا بهذه الطريقة، ولا قيامة للدولة ما دُمنا نعيش داخل دوامة أجهزتها الرسمية مسخّرة للفاسدين.

شارك المقال