فتوح لـ “لبنان الكبير”: المطلوب إعلان عدم المس بالودائع

هدى علاء الدين

يعيش القطاع المصرفي اللبناني مرحلة قاتمة من تاريخه بعد أن سقط في فخ الأزمات السياسية والاقتصادية، ليُنهي بذلك حقبةً طويلة من الاستقرار والمتانة المالية التي اتسم بها. أسباب الانهيار المتعددة والمتشابكة وضعت المصارف تحت مجهر المساءلة والمحاسبة وسط غياب واضح للحلول التي تُرضي المودعين من دون تحميلهم الجزء الأكبر من الخسائر، والتي بموجبها سيتم شطب جزء كبير من ودائعهم، حتى أصبحت المعركة بين المصارف والمودعين من أكثر المعارك احتداماً في ظل فقدان الثقة بين الطرفين وعدم جدية الحكومة في اتخاذ إجراءات صارمة تنهض بالقطاع من جهة وتحمي حقوق المودعين من جهة أخرى.

وعن مصير القطاع المصرفي وما ينتظره في المرحلة المقبلة والخطوات التي يجب اتخاذها لحماية أموال المودعين ودور اتحاد المصارف العربية في دعم المصارف اللبنانية، كان لموقع “لبنان الكبير” حديث مع الأمين العام لاتحاد المصارف العربية الدكتور وسام فتوح الذي اعتبر أن القطاع المصرفي يمرّ بأزمة كبيرة جداً وغير مسبوقة، وربما لم يشهد مثلها حتى في أسوأ أيام الحرب الاهلية. فعلى الرغم من أن الأزمة المصرفية تعود جزئياً إلى انكشاف المصارف الكبير على الدين العام، وخصوصاً بالدولار، إلا أن الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تعصف بلبنان منذ أكثر من ثلاث سنوات ساهمت في تدهور الوضع المصرفي، فضلاً عن بعض السياسات التي اعتمدت والاجراءات التي اتخذت خلال السنوات الثلاث الماضية، وفاقمت الأزمة بدلاً من حلّها ولم تعمل على الأقل على التخفيف من تداعياتها، ما أدى إلى مزيد من الضرر بالمصارف اللبنانية. فعلى سبيل المثال، عوضاً عن التخلي عن سعر الصرف الثابت الذي ساد لثلاثة عقود والانتقال إلى سعر صرف مرن يحدده السوق، نشأت أسعار عدة للصرف. وفي حين كان من الضروري الحفاظ على احتياطات مصرف لبنان وعلى أموال المودعين، تبددت على دعم السلع الاستهلاكية والوقود. يُضاف إلى ذلك أن اعتماد سعر الصرف الرسمي لسداد القروض المصرفية أدى الى خسائر كبيرة للمصارف. وهكذا، يمكن القول إن المصارف والمودعين كانوا ضحايا الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعيشها لبنان، وكذلك ضحايا الاجراءات الاقتصادية والنقدية المتخذة خلال السنوات الثلاث الماضية.

وأشار فتوح إلى أن تأخير الحكومة اللبنانية في تطبيق البرنامج الاصلاحي، وخصوصاً إصدار القوانين المتعلقة بالقطاع المصرفي والتأخير في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يؤديان إلى تفاقم وضعية المصارف، وبالتالي إلى مزيد من عدم اليقين في مصير الودائع، آملاً أن تستعيد المصارف اللبنانية عافيتها بعيداً عن التجاذبات السياسية والمزايدات الشعبوية، إذ لا نهوض للبنان واقتصاده من دون قطاعه المصرفي. وعليه، من الضروري الانتهاء بسرعة من إصدار القوانين المتعلقة باعادة تنظيم القطاع المصرفي، وعلى رأسها قانوني “الكابيتال كونترول” والسرّية المصرفية، لأن التأخير يؤدي إلى مزيد من أجواء عدم اليقين في مصير المصارف، ويزيد من تراجع أعمال الوساطة المالية وتحويل لبنان إلى “اقتصادي نقدي”، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر اقتصادية وأمنية. 

إجراءات وإصلاحات ما قبل الهيكلة

ولمصلحة من إعادة هيكلة المصارف، وعما إذا كانت هذه المصارف تخشى على مصيرها من الاقدام على هذه الخطوة، رأى فتوح أنه قبل الحديث عن إعادة الهيكلة، على الحكومة أولاً اتخاذ الاجراءات الاقتصادية والاصلاحية الضرورية لاعادة الحياة إلى الاقتصاد اللبناني وقطاع الأعمال الذي تكاد الأزمة الحالية أن تدمره. وبعد ذلك، يجب على مصرف لبنان اتخاذ اجراءات لاعادة تنظيم الأسواق المالية، وعلى رأسها توحيد سعر الصرف، تمهيداً لتعويمه، أي ترك تحديد قيمته لقوى العرض والطلب. وهذا الأمر يسمح للبنك المركزي بالحفاظ على احتياطاته من الدولار بدلاً من استنزافها عبر ضخّه باستمرار في الأسواق، وكذلك التركيز على اجراءات أخرى وعلى رأسها ضبط التضخم. وبعد عودة عجلة الاقتصاد الوطني إلى الدوران، وإعادة تنظيم الأوضاع المالية للدولة وعلى رأسها الموازنة العامة، ووضع خطة منظمة وواضحة لبدء الحكومة بدفع لديونها، ينظر عندها في وضعية كل مصرف على حدة، ويقرر أي من المصارف لديها قابلية الاستمرار من عدمها، وأي منها لديها إمكان تلبية الشروط الرقابية والتنظيمية الجديدة. وبناء على ذلك، يتم السير بخطة إعادة هيكلة أو إصلاح القطاع المصرفي. ولكن الآن، يجب العمل على إعادة العمل الطبيعي للمصارف، لأن ذلك سيساعد من دون شك في إعادة إحياء الاقتصاد اللبناني، إذ لا يمكن تصور اقتصاد من دون مصارف تعمل بصورة طبيعية.

ولفت فتوح إلى مسألة مرتبطة بصورة كلية بإعادة هيكلة المصارف واستمراريتها، ألا وهي الودائع، وارتباط مصيرها مباشرة بمصير المصارف، معتبراً أن عدم دفع الدولة (ومن ضمنها مصرف لبنان) حقوق المصارف، أو فرض تصفية مصارف، سوف يؤدي إلى شطب جزء من ودائعها حكماً، بسبب الاختلال الحاصل بين موجودات تلك المصارف ومطلوباتها. كما أن إقرار شطب الودائع، سوف يؤدي إلى مشكلات ودعاوى لا نهاية لها بين المودعين والمصارف.

“صندوق استرداد الودائع” أمرٌ نظريّ

ولدى السؤال لماذا الحديث دوماً عن شطب أموال المودعين كحلّ للأزمة، وما إذا كان من الصعب إعادة تكوين الودائع في المدى المتوسط، أجاب فتوح: “للأسف، اعتمدت الخطة الاصلاحية للحكومة الحالية طريقاً سهلاً للتخلص من التزامات الدولة اللبنانية (الحكومة ومصرف لبنان) تجاه المقرضين (وعلى رأسهم المصارف)، عبر شطب تلك الالتزامات واعتبارها خسائر. وعدا عن أن هذا أمر غير صحيح تقنياً، لأن الدول لا تُفلس ويمكنها إعادة جدولة التزاماتها لدى عدم تمكنها من السداد، فإن لقرار اعتبار الالتزامات خسائر عواقب كارثية على الاقتصاد والمصارف والمودعين”.

ورأى أن شطب أي مبلغ من التزامات الدولة تجاه المصارف، سيؤدي حكماً إلى شطب مبلغ مماثل له من الودائع، معتبراً أن النسخة الثانية من خطة الحكومة التي أشارت إلى ما أسمته “صندوق استرداد الودائع”، أمرٌ نظريّ ومن الصعب تطبيقه. وعليه، يجب شطب كلمة “شطب الودائع” من خطة الحكومة، إذ يجب أن تحترم الدستور الذي ينص على حماية الملكية الفردية، ومن ضمنها أموال المودعين. كما يجب عليها التوقف تماماً عن الاعلان أن الودائع سوف تخضع لاقتطاع أو شطب كلي أو جزئي وإزالة هذا البند كلياً من خطتها الاصلاحية. وهنا تجدر الاشارة إلى أنه ليس المطلوب من الدولة تسديد التزاماتها فوراً، لأنه لا تستطيع أي دولة فعل ذلك. كما أن المودعين لا يطلبون الحصول على ودائعهم فوراً، بل هم راضون بجدولتها على فترة زمنية معقولة، شرط تأكدهم من عدم تعرضها لأي اقتطاعات أو شطب. وبحسب فتوح، فإن إعلان عدم المس بالودائع، سوف يريح المودعين، ويجعلهم يقبلون بجدولتها، وهو ما سيكون له الأثر الايجابي على المصارف كذلك، مجدداً التأكيد أن العودة الطبيعية للعمل المصرفي، هو بحد ذاته أحد العوامل التي سوف تساعد في إعادة الثقة بالمصارف، وبالتالي تراجع الضغوط عليها.

أما عن مقولة “إعادة تكوين الودائع”، فهي عبارة غير واضحة. وعن كيفية إعادة تكوين الودائع وإن كان عبر استجلاب ودائع جديدة، فهو أيضاً ليس واضحاً، وربما من الصعب تحقيقه في المدى المنظور. لذلك، يجب على الدولة الللبنانية الاسراع في اعتماد خطة نهوض واصلاح اقتصادي واضحة وشفافة، واعادة جدولة التزاماتها ووضع برنامج واضح لاعادة تسديد ديونها للمصارف، والتي بدورها تقوم باعادة دفع الودائع للمودعين. كما تجدر الاشارة إلى ضرورة إقامة حوار مباشر بين القطاع المصرفي اللبناني والمودعين وشرح رؤية المصارف لكيفية الخروج من الأزمة وإمكان البدء بإعادة الودائع.

القطاع المصرفي ليس وحيداً

وعن دور اتحاد المصارف العربية في المساعدة في انعاش القطاع المصرفي اللبناني من جديد، أشار فتوح إلى الجهود الجدية التي يقوم بها اتحاد المصارف العربية من أجل تحقيق ذلك، وعلى رأسها الزيارات واللقاءات التي يقوم بها الاتحاد إلى الدول العربية والأجنبية بهدف توطيد العلاقة بين المصارف اللبنانية من جهة والمصارف العربية والأجنبية من جهة أخرى، وتعزيز العمل المصرفي المشترك بينها. ومن أبرز النشاطات التي قام بها الاتحاد تنظيم “منتدى بيروت الاقتصادي” في تشرين الأول الماضي، والذي حث فيه على حشد الدعم والطاقات والخبرات العربية واللبنانية، لمناقشة أهم هاجس يقلق بال اللبنانيين، ألا وهو الخطط الاصلاحية الاقتصادية والمالية والمصرفية، والبدائل المتوافرة، ومسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وما هو مطلوب من صانعي القرار في لبنان في هذا الخصوص، مسلطاً الضوء على التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وأهمها التأكيد على ثوابت حماية أموال المودعين في المصارف وعدم شطب تلك الودائع وإعداد خطة متدرجة لاستعادتها، والتأكيد على أهمية إستمرار عمل المصارف وتعزيز ملاءتها المالية وإعادة هيكلتها ضمن خطة إصلاحية شاملة، وإنشاء لجنة متابعة يؤسّسها الاتحاد تتضمّن خبراء عرباً وممثلين عن الحكومة اللبنانية، تعمل على جمع المقترحات والتجارب العربية في الاصلاح التي عرضت في أعمال المؤتمر وضمّها إلى الورقة الاصلاحية التي أعدّها إتحاد المصارف العربية، وصولاً إلى إعداد ورقة إصلاحية شاملة تُقدَّم إلى الحكومة بصيغتها النهائية، لتكون هذه التوصية النقطة الأساسية في الدور الذي يلعبه اتحاد المصارف العربية في دعم المصارف اللبنانية.

وختم فتوح قائلاً: “إن زياراتنا التي نقوم بها إلى الدول العربية وأصحاب القرار الدولي، كوزارة الخزانة الأميركية، تصب دائماً في مصلحة القطاع المصرفي العربي عموماً واللبناني خصوصاً، لا سيما في ما يتعلق بتوثيق العلاقة بين المصارف اللبنانية والمصارف المراسلة الدولية، والتأكيد على إعادة الثقة الدولية بالمصارف اللبنانية”.

شارك المقال