عهد الانهيار الكبير

هدى علاء الدين

سنوات لبنان الأخيرة لا تُشبهها أي من سنواته الماضية، وعهده اليوم لا يمكن مقارنته بأي من عهوده السابقة. فلم يكن أحد ليتخيل هذا الكمّ من الحقد واللامسؤولية واللامبالاة والتدمير الممنهج لأسس الدولة وركائزها ومؤسساتها. صحيحٌ أن لبنان لم يكن يوماً من الأيام بعيداً عن الأزمات بل كان دائماً في صميمها، إلاّ أنها لم تأخذه في أي مرحلة من مراحلها إلى هذا الحدّ من الانهيار التام والانحدار الخطير.

أمراض مستعصية أصابت الاقتصاد اللبناني لن يكون التعافي منها على المدى القصير أمراً ممكناً، في ظل تحكم سياسي يعرقل الحلّ وينسف كل مبادرة داعمة أو بارقة أمل تنهض به من جديد. فالأزمة سياسية بامتياز والاقتصاد يدفع ثمن عدم الاستقرار والقرارات غير الاستراتيجية وتعويم المصالح الشخصية على حساب الوطن. سنوات عجاف من الكيدية والعبثية والإفلاس السياسي والاقتصادي رافقت العهد، فكان عنوانها فشلاً ذريعاً، تكتيكات خاطئة، ممارسات باطلة، خطابات طائفية، شعارات وهمية، نوايا حاقدة وانعدام للحس الوطني.

وإن كان لا يُخفى على أحد أن اقتصاد لبنان ليس عاجزاً عن النهوض، لكن التعنت والمكابرة حوّلت تداعيات فشل العهد إلى أزمات قاتلة بسبب الإصرار الممنهج على التعطيل والاستمرار في أخذ لبنان إلى واقع مجهول لكنه معلوم المصير. فلم يشهد لبنان منذ تاريخ تأسيسه هذا الفجور في الاحتكار والتهريب، وهذا الاستشراس في الفوضى والفساد، وهذا التحكم المميت للسوق السوداء والمضاربة في مصير العملة الوطنية. شظايا الانهيار أصابت كل القطاعات دون استثناء، وتحولت المؤشرات والأرقام المالية إلى كارثية، تباطؤ في النمو وانهيار للناتج المحلي، ركود شاق وانكماش سيطول أمده، بطالة وفقر مدقع وتضخم مفرط، أزمة ثقة وتدهور للقطاع المصرفي، ظلام دامس وكهرباء بالقطارة، تحذيرات من انفجار اجتماعي معيشي، رفع عشوائي للدعم وبطاقة تمويلية قد لا تفي بالغرض، غياب أي خطة للإنقاذ… باختصار، أصبح الوطن ذلك الشبح الأسود.

يستحق هذا العهد أن يُطلق عليه عهد الانهيار الكبير، إذ لم يعد الانهيار فيه مستتراً بل أصبح واقعاً يُجاهر به، فمن كان يتخيل أن اللبناني سيأتي عليه يوماً ويشتري فيه رغيف خبز وحبة فاكهة وجانح فروج وقطعة حلويات، ومن كان يتخيل أن الوقوف في طوابير الذل لساعات طويلة ستصبح من العادات الصباحية اللبنانية، ومن كان يتخيل أن رئة الشرق المفعمة بالحياة سيستجدي أطفالها وكبارها أوكسيجيناً يُزيح عنهم خطر الموت.

إنهار لبنان ولم يُسعفه عهد ضرب بعرض الحائط الدستور والقوانين وتجاوز كافة الخطوط الحمراء وفرّط بوطن كان أمانة بين يديه، إذ لم يكن الفراغ الرئاسي عام 2016 عبثياً ولم يكن التمسك بالجنرال ميشال عون حينها كمرشح رئاسي وحيد عفوياً، ولم يكن ضرب مؤتمر سيدر ضرباً عشوائياً كما لم يكن عزل لبنان عن محيطه العربي والخليجي عزلاً بريئاً، بل مقدمة مدروسة من أجل تغيير هوية لبنان وزجّه في جحيم مفتعل كان ولم يزل بملء إرادة صانعيه عن سابق تصوّر وتصميم.

يتعرّض لبنان اليوم لأكبر خيانة في تاريخه، فدفع من كيانه ووجوده ثمناً لمعركة سياسية تُخاض بسلاح اقتصادي مالي دمّره وأوجع شعبه وفتك بأمنه الغذائي والاجتماعي، وأورث أجياله فقراً وعوزاً وإفلاساً. من يُجهض اليوم عملية تشكيل الحكومة والمباشرة بالإصلاح ويُمعن في سياسة التعطيل يعلم تماماً الكلفة الباهظة لهذا المسار، ومن يُطلق رصاصة الرحمة على أي محاولة للإنقاذ والإنعاش الاقتصادي يُدرك التداعيات السلبية المدمرة، لكن معادلة “مش مهم البلد المهم العهد” لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة وبناء مستقبل سياسي على أشلاء وطن جعلت خيانة العهد للبنان خيانة عُظمى مشروعة.

شارك المقال