بين “فشّة خلق” المودعين و”عقاب” المصارف… الأزمة تتعقّد

سوليكا علاء الدين

لا تهدأ ولا تستكين صرخات الغضب العارمة التي يُطلقها اللبنانيون مراراً وتكراراً والمُطالبة بإعادة المصارف أموالهم المنهوبة. فالقيود المُشدّدة على الودائع بالدولار والسقوف الصارمة على عمليات سحب الأموال بالليرة ومنع التحويل خصوصاً بالعملة الصعبة وخسارة المودعين قيمة أموالهم وتعرّضهم إلى “هيركات” مُجحف، أسباب أسهمت جميعها في تصاعد وتيرة التحرّكات والوقفات الاحتجاجيّة ضد المصارف، حتى بلغت حدّ الاقتحامات والاعتداءات المُسلّحة، بعدما ضاق الخناق على المودعين وشعروا باليأس لعدم تمكنهم من الحصول على ودائعهم المحجوزة بالأساليب القانونية والشرعيّة. فضغط الأزمة الخانقة لا يرحم، كما أنّ انعدام الخطط والحلول الاقتصادية والمالية الفاعلة وغياب القوانين التي تحمي حقوقهم تجعلهم يعيشون حالات خوف وقلق مُتزايدة إزاء مصير أموالهم ومدى امكان استردادها لا سيما في حال القبول بعمليّة شطب جزء كبير من الودائع المصرفيّة.

على مدى سنوات طويلة، شكّل القطاع المصرفي في لبنان قلب الاقتصاد النابض ومدماك قوّته الرئيسة، واليوم تزداد الفجوة بين المصارف والمودعين في صورة تعكس مدى عمق انعدام الثقة التي باتت تُهدّد كينونة هذا القطاع الحيوي ومصيره. فحسب جمعيّة المودعين في لبنان، بلغت قيمة الودائع لدى المصارف اللبنانية ما يُقارب الـ170 مليار دولار أميركي، وذلك قبل أن يُهرّب جزء كبير منها إلى الخارج مع بداية الأزمة خريف العام 2009. أمّا في العام 2022، فقد شهد حجم الودائع تراجعاً بنسبة 3 في المئة، بحيث شكّل 76 في المئة منها بالدولار الأميركي وبلغت قيمتها حوالي 95 مليار دولار، إلّا أنّ معظم هذه الأموال يصعب الحصول عليه كونه غير مُتاح كسيولة نقدية مع استمرار تراجع احتياط مصرف لبنان بالعملة الصعبة إلى 9.43 مليارات دولار. وما زاد الطين بلّة، هو التوزيع غير العادل لخسائر الأزمة المالية بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف والمودعين الذين وجدوا أنفسهم أكثر الخاسرين بعد أن وقع على عاتقهم تحمّل الجزء الأكبر منها. وأمام هذا الوضع المُزري الذي وصل إليه القطاع، شهد الكثير من المصارف خلال العامين المنصرمين عمليات اقتحام مُتعدّدة عبر استخدام الأسلحة والعنف في خطوة شكّلت سابقة خطيرة على صعيد التفلّت الأمني، إلى أن عاود مسلسل اقتحام المصارف حلقاته من جديد خلال الأيام الماضية متنقّلاً بين مختلف المناطق اللبنانيّة، ومُنذراً بمزيد من التصعيد على الساحة المصرفية والنقديّة.

هذا الواقع المُخيف، دفع جمعية المصارف في لبنان إلى استنكار موجات الاعتداء المُتكررة والمُمنهجة التي تستهدف مصارفها بفروعها وموظفيها في مرحلة اعتبرتها الأخطر في تاريخ لبنان، مُبديةً استياءها من الطريقة التي تُعالج فيها الأزمات النظامية. ولفتت إلى أنّ التعقّل وإقرار القوانين اللازمة والكفيلة بالحفاظ على حقوق المودعين هما الطريق الوحيد إلى الحل الناجع. وعلى إثر ذلك، أعلنت الجمعيّة أنّها تجد نفسها مُضطرّة إلى العودة إلى الاجراءات الاحترازيّة والتنظيميّة المُتشدّدة وذلك بدءاً من صباح يوم الجمعة الواقع فيه 21 تموز الحالي وحتى إشعار آخر، مُشيرةً إلى أنّ المصارف ستستمرّ خلال ذلك، في تأمين الخدمات بحدّها الأدنى داخل الفروع وعبر الصرّافات الآليّة، مع امكان إقفال بعض الفروع بصورة مؤقّتة في حال الضرورة.

الجمعية لا تقبل أن تكون مصارفها مكسر عصا، وهي تُواجه الاقتحام بالإضراب أو الإقفال وتُحمّل الدولة مسؤولية السياسات الخاطئة التي انتهجتها على مدى سنوات، وتتّهمُها بالتهرّب والتنصّل من واجبها في رد الودائع التي استلفتها من مصرف لبنان وبالتالي تحميل أصحاب هذه الودائع أعباءها وخسائرها. بدورهم، يرفض المودعون دفع الثمن واعتبارهم كبش فداء، ويؤكدون حقّهم المشروع في سحب كامل ودائعهم من دون أيّة قيود. ويلقون باللوم على المصارف ويعتبرونها المسؤولة الأولى عن خسارة أموالهم. ومع تفاقم صعوبة الأوضاع الاقتصادية وانهيار قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع معدّلات التضخم، يعود زخم الاقتحامات بقوّة إلى واجهة المشهد المصرفي. فتجدّد الاعتداءات في هذا التوقيت الحساس بالذات، أثار الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام حول الدافع الرئيس وراءها وما إذا كانت مجرّد استكمال لـ “فشّة خلق” المودعين أم وسيلة ضغط لحثّ المسؤولين على حلحلة الجمود والاسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أم أنّ هناك أيادي خفيّة تقوم بتحريك هذه الاقتحامات وبصبّ الزيت على النار من أجل إشعال فتيل الشارع وتحفيز حصول الفوضى النقدية، لا سيّما مع توسّع دائرة الشغور في لبنان وقرب موعد استحقاق الحاكميّة الذي لا تزال سيناريوهاته مجهولة الهوية بانتظار قرار نوّاب رياض سلامة.

وفي إطار المساعي القائمة، تقدّم نواب الحاكم من لجنة الادارة والعدل بخطّة نقدية مالية تضمّنت لائحة من الشروط كي يقبلوا بتسلم مهام سلامة عقب انتهاء ولاية حكمه بعد أقل من 10 أيام. أحد أهم شروط النواب التي وُصفت بالصعبة والتعجيزيّة هو ضرورة إقرار قانون إعادة التوازن إلى النظام المالي ومعالجة فجوة توزيع الخسائر وحماية الودائع في شهر أيلول المُقبل، بالاضافة إلى إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف. ويتعهّد النواب في المقابل بتأجيل وقف العمل بمنصّة “صيرفة” حتى نهاية أيلول أيضاً، على أن يليه إطلاق منصّة حرّة وشفّافة تسمح بتدخّل مدروس لـ “المركزي” بعد موافقة كل من الحكومة والمجلس النيابي. غير أنّ الاجتماع انتهى من دون النجاح في التوصل إلى أيّة نتيجة مع الابقاء على الاتصالات مفتوحة من أجل اتخاذ القرار المناسب. وكان مجلس شورى الدولة قد أعدّ في وقت سابق مشروعاً يهدف إلى حماية أموال المودعين وإعادتها الى أصحابها عبر إنشاء حساب لتغذية الودائع وفق نسبة مئويّة من خلال الاستثمار في قطاعات الدولة المُنتجة من دون تعريض مُلكيّتها للبيع أو تحديد نسبة معيّنة لأي استثمار، كذلك من دون المساواة بين الودائع كافة التي ستكون خاضعةً لمجهر هيئة التحقيق الخاصة من أجل فرزها مع التأكيد على أهميّة وضرورة الإنطلاق من نقطة معيّنة لأنّ مهمة إعادة الودائع إلى أصحابها سوف تكون صعبة كلّما تأخّر الوقت. لكنّ هذا المشروع يتعرّض لانتقادات كثيرة ولم يُبصر النور حتى اللحظة.

بعد مرور أكثر من أربع سنوات على بدء الأزمة، وقرار إغلاق المصارف عقب ثورة 17 تشرين واستمرارها في احتجاز ودائع المواطنين وإحكام سيطرتها على السحوبات الدولارية، يجد المودعون أنفسهم أمام خيار استرداد ودائعهم بالقوّة. وعلى الرغم من سلسلة التعاميم التي يُصدرها مصرف لبنان لتسهيل سحب الأموال من المصارف، إلاّ أنّ المودعين يصفون هذه التعاميم بالعشوائية والاستنسابيّة وغير العادلة في حقهم بحيث قامت بتشريع الـ”هيركات” لسلبهم أموالهم. كما أنّ استهتار الدولة بملف استرداد الأموال وعدم وضع الاستراتيجيات الناجعة للنهوض بالقطاع المصرفي والمالي وغياب الحل الجذري لمأزق الودائع وتسييس الموضوع يؤجّج نار الأزمة بين المصارف والمودعين، ويجعلها عرضة للتجاذبات والاصطياد في الماء العكر ويهدر ما تبقّى من فرص إعادة الثقة والأموال.

شارك المقال