القطاع المصرفي… حصن الاقتصاد الذي تهاوى

سوليكا علاء الدين

على مدى عقود طويلة، شكّل القطاع المصرفي ركيزة القطاعات الاقتصادية الحيوية وعصب الاقتصاد اللبناني وذلك بفضل دوره الرائد في تنشيط عجلة النمو وتحريكها من خلال موارده البشريّة الكفوءة وانفتاحه العالمي وجودة الخدمات المصرفيّة المُقدّمة، بالاضافة إلى نجاحه في اكتساب ثقة المودعين وقدرته على جذب الرساميل والاستثمارات والتدفقات المالية الكبيرة. وقد أظهر القطاع متانته في تحمّل الصدمات ومواجهة الأزمات وتجاوزها لا سيما خلال أزمة العام 2008، إذ بقي صامداً في حين طاول الانهيار الكثير من المؤسسات المالية والمصرفية في مختلف أنحاء العالم.

لكنّ هذا الحصن المنيع شهد مع بداية الأزمة في خريف العام 2019 تدهوراً دراماتيكيّاً بحيث تهاوى أمام رياح الانهيار الاقتصادي الذي اخترقت سهامه الجسم المصرفي وأدّت إلى تعطيل سير العمل فيه وتراجعه. فالقطاع الذي كان رمزاً للقوّة والتباهي، أصبح اليوم مثالاً للاختلاس وتبييض الأموال والفساد وسوء الادارة مع تعرّضه لأقسى أزمة ثقة شوّهت صورته ونالت من سُمعته وأدائه ومصداقيّته. إندلاع أزمة المصارف اللبنانية أدّت إلى اهتزاز مكانة القطاع لدى المودعين وإلى زعزعة ثقتهم بالمصارف، إذ سارعوا إلى سحب ما استطاعوا من أموالهم وإيداعها في منازلهم التي تحوّلت إلى مصارف صغيرة خاصة.

وفق أحدث الأرقام الصادرة عن تقرير “بنك عودة” للفصل الثاني من العام 2023، تقلّصت ودائع الزبائن من 168.4 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019 إلى 97.3 مليار دولار في نهاية أيار 2023، أي بنسبة 42 في المئة. في حين تراجعت الودائع المصرفية بالعملات بنحو 30.4 مليار دولار خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2023 لتبلغ حوالي الـ 93.5 مليار دولار، بينما انخفضت الودائع المصرفية بالليرة بقيمة 5.7 تريليون ليرة لبنانية لتصل إلى نحو61.7 تريليون ليرة لبنانية في نهاية أيار 2023. أضف إلى ذلك، بادرت المصارف منذ اندلاع الأزمة الى اتباع سياسات مُجحفة في حق المودعين عبر فرضها قيوداً صارمة على سحب الأموال وتقنين الدفعات النقدية واحتجازها الودائع، ناهيك عن اتهامها بتهريب مبالغ ماليّة ضخمة إلى الخارج وتحميلها مسؤولية الانهيار الحاصل، بحيث ساهمت في حدوث موجات غضب لدى اللبنانيين الذين عمدوا مراراً وتكراراً إلى اقتحام الكثير منها أملاً في الحصول على حقوقهم وأموالهم المسلوبة بعد أن فشلت جميع الوسائل والطرق الأخلاقية والقانونية.

لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، فالأزمة المصرفية دفعت بالمجتمع الدولي إلى فتح ملفّات الهدر والفساد والمُخالفات وتوجيه لائحة من الاتهامات ضد عدد كبير من المصرفيين اللبنانيين الكبار وعلى رأسهم حاكم مصرف لبنان الأسبق رياض سلامة الذي تحوم حوله شبهات عديدة مثل “اختلاس المال العام” و”الاثراء غير المشروع”. وانطلاقاً من مروحة الاتهامات والتحقيقات الحاصلة، فرضت كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا مُجتمعة عقوبات اقتصادية بتهم تتعلّق بالفساد المالي على رياض سلامة – الصادرة بحقّه أيضاً مذكرتا توقيف دوليّة عن كلّ من ألمانيا وفرنسا – بالاضافة إلى أربعة أشخاص آخرين مُقربين منه. الدول الثلاث لفتت إلى أنّ سلامة أساء استغلال موقعه في السلطة، في انتهاك للقانون اللبناني من أجل إثراء نفسه وشركائه وذلك عبر تحويل المئات من الدولارات عبر شركات وهميّة لاستثمارها في قطاع العقارات الأوروبي. كما اتهمت سلامة وأعوانه المقرّبين بسرقة اللبنانيين وحرمانهم من الموارد الضرورية لاستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي، عبر تهريب أكثر من 300 مليون دولار من أموال “المركزي” لتحقيق مكاسب شخصيّة.

وفي موازاة ذلك وفي التوقيت عينه، أفرج عن تقرير التدقيق الجنائي لشركة “ألفاريز أند مرسال” حول حسابات مصرف لبنان والذي أشار إلى أنّ الوضع المالي لـ “المركزي” تدهور بسرعة بين العامين 2015 و2020، لافتاً إلى وجود سوء إدارة ومُخالفات جسيمة وثغرات جذريّة في آليّة عمل مصرف لبنان طوال الخمس سنوات، والمُرتبطة بصورة رئيسة بالحاكم السابق رياض سلامة. التقرير الذي كشف تحوّل فائض 7.2 مليارات دولار بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان نهاية العام 2015 إلى عجز بـ50.7 مليار دولار نهاية العام 2020، اعتبر أنّ الهندسات المالية كانت مُكلفة بحيث بلغت 115 تريليون ليرة نهاية العام 2020، وأنّ سلطة رياض سلامة – صاحب الصلاحيات المُطلقة والقرار الرئيس – لم تخضع لأية رقابة كافية لا سيما من المجلس المركزي لمصرف لبنان ومفوّض الحكومة في المصرف، فقام بتبديد الأموال وتغيير الأرقام والتلاعب بالوثائق من أجل إعطاء صورة إيجابيّة رابحة عن حسابات “المركزي”.

إتهامات، دعاوى قضائية، تحقيقات، عقوبات دوليّة باتت العناوين الأبرز للقطاع المصرفي الغارق وسط مُستنقعات من التُهم والادانات. وأمام هذا الواقع الأسود وتلوّث صيت الكثير من المصرفيين اللبنانيين، تشوّهت سُمعة المصارف اللبنانية داخليّاً وخارجيّاً، وها هو القطاع يدفع ثمناً باهظاً ويخسر دوره النافذ بعد أن تمّ تحويله من رافعة للاقتصاد إلى مسبّب رئيس للأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية. وأثبتت شراسة الأزمة مدى هشاشة أساساته وضعفها وحجم المخاطر التي تهدّد وجوده وهول الخسائر التي تعرّض لها بحيث انتقل من خانة المموّل والداعم الأكبر للأفراد والمؤسسات والقطاعات إلى خانة المسؤول الأساس عن الانهيار المالي وتعطيل أشكال النمو الاقتصادي كافة.

لا اقتصاد سليم من دون قطاع مصرفي مُستقر وصلب، ومن أجل النهوض من الأزمة لا بدّ من الوصول إلى مصرف مركزي يتمتّع بسيادة ذاتية واستقلالية تامة ويكون خاضعاً للرقابة والمساءلة، بحيث يعمل على توجيه المصارف وتنظيمها لاعادتها إلى طبيعة عملها. كما يتوجّب عليه صياغة السياسات النقديّة الفاعلة والحفاظ على استقرار العملة الوطنية وسلامة الأنظمة والمعايير المالية التي من شأنها أن تضع لبنان على سكّة التعافي والانتعاش الاقتصادي. باختصار، لا بد من وجود نيّة صريحة تهدف إلى تطبيق الاصلاحات الحقيقية وتُعيد هيكلة القطاع المصرفي الذي بات أمراً ضرورياً وملحاً لتلميع صورة القطاع وهيبته التي تلطّخت بأشنع عمليات الفساد والهدر والاختلاس وسوء الأمانة المُمنهجة، علّها تنجح في إعادة اكتساب الثقة المفقودة وفي استرجاع لبنان مجد لقب “مصرف الشرق”.

شارك المقال