عاصفة البحر الأحمر: اضطرابات الشحن تُقيّد التجارة العالمية

سوليكا علاء الدين

سلط مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” في تقويمه الصادر لشهر شباط 2024 الضوء على اضطرابات الملاحة والتأثيرات السلبية لتعطيل طرق الشحن في البحر الأحمر والبحر الأسود وقناة بنما على التجارة العالمية بحيث أكد أن التجارة العالمية تشهد تحولات جذرية مع استمرار حالة عدم اليقين في النقل البحري الدولي.

فبعد شهرين من بدء العام 2024، لا تزال التوترات التي بدأت في تشرين الثاني 2023 في البحر الأحمر وقناة السويس قائمة، ما يهدد بحريّة حركة البضائع وسلاسل التوريد العالمية المتشابكة ويُنذر بتبعات بعيدة المدى على التضخم، وأمن الغذاء والطاقة. وتضاف هذه الاضطرابات إلى تلك التي تعوق عبور السفن في قناة بنما بسبب الجفاف الناجم عن تغيّر المناخ، والحرب في أوكرانيا التي تؤثر سلباً على النشاط التجاري في البحر الأسود. وفي حال استمرار هذه الاضطرابات في الممرات المائية البحرية الدولية الرئيسية، من المرجح أن تشهد سلسلة التوريد العالمية اضطرابات أوسع وأعمق. 

اضطرابات وانخفاضات

للمرة الأولى في التاريخ، يواجه العالم خضّات بحرية متزامنة بحيث يُظهر الانخفاض في عدد عمليات العبور الشهرية حجم الترابط الوثيق بين عمليات الشحن. ففي كل من قناتي السويس وبنما، شهد العبور انخفاضاً ملحوظاً تجاوز 40 في المئة مقارنة بأعلى مستوى له. وتركزّت معظم التراجعات في قناة السويس خلال الشهرين الماضيين، بينما امتدّ الانخفاض في قناة بنما على مدار العامين الفائتين. وتُتيح قناة السويس مساراً مباشراً للشحن بين أوروبا وآسيا، من دون الحاجة إلى الالتفاف حول القارة الافريقية.

وفي العام 2023، نقل نحو 22 في المئة من تجارة الحاويات العالمية المنقولة بحراً عبر قناة السويس، حيث تمّ شحن بضائع متنوعة تشمل الغاز الطبيعي والنفط والسيارات والمواد الخام والعديد من المنتجات المصنعة ومكونات الصناعة من وإلى المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.

ونظراً إلى تزايد مخاطر الهجمات في البحر الأحمر، بات العديد من السفن يُفضّل حالياً تجنّب عبور قناة السويس، ويختار بدلاً من ذلك الطريق الأطول حول القارة الافريقية. ونتيجة لذلك، تمّ تغيير مسار 586 سفينة حاويات حتى النصف الأول من شباط 2024، بينما انخفضت كمية الحاويات التي تعبر القناة بنسبة 82 في المئة.

وتُعدّ القناة مصدراً رئيسياً لايرادات العملات الأجنبية لمصر، حيث ساهمت بمبلغ 9.4 مليارات دولار في السنة المالية 2022/2023، أي ما يعادل 2.3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد. وأفادت التقارير الصادرة أن أزمة البحر الأحمر أدت إلى انخفاض إيرادات قناة السويس بنسبة 40 في المئة. ومن المتوقع أن يكون لتدهور الوضع في مصر آثار سلبية على بلدان أخرى في المنطقة، مثل إثيوبيا والسودان.

أزمة جفاف

وفي ظلّ تراجع مستويات المياه بصورة مُقلقة، خفّضت هيئة قناة بنما عدد عمليات العبور اليومية من 36 في المتوسط إلى 22، مع خططٍ لخفضٍ إضافي إلى 18 عبوراً بحلول شباط 2024. وتُعدّ قناة بنما ذات أهميةٍ خاصةٍ للبلدان الواقعة على الساحل الغربي لأميركا الجنوبية.

ومن أجل تجنب فترات الانتظار الطويلة في القناة، أعيد توجيه العديد من السفن عبر قناة السويس لنقل البضائع القادمة من آسيا، ما أدى إلى زيادة عبور القناة قبل أزمة البحر الأحمر الحالية. ونتيجة للاضطرابات في قناة بنما، ازداد الطلب على خدمات النقل بالسكك الحديدية والطرق بصورة كبيرة خلال الأسابيع الأخيرة، بحيث لم يعد لدى شركات الشحن خيار إعادة التوجيه عبر قناة السويس.

وجهات جديدة

لا شك في أنّ الحرب في أوكرانيا فاقمت الاتجاه نحو زيادة مسافات الشحن البحري، خصوصاً بالنسبة الى تجارة النفط والحبوب. وفي أسواق الشحن الأخرى، تمّ تحويل المزيد من ناقلات النفط إلى طريق رأس الرجاء الصالح. إذ انخفض عدد سفن نقل السيارات التي تستخدم البحر الأحمر بأكثر من النصف في كانون الأول 2023 مقارنة بكانون الأول 2022. وعملياً لا يُشكل الغاز الطبيعي المسال جزءاً من حركة الملاحة عبر قناة السويس، ما أدى إلى ارتفاع أسعاره.

وأشارت أحدث البيانات للربع الأول من العام 2024 إلى إعادة نشر سعة شحن الحاويات بعيداً عن دول الخليج، مع إدخال المزيد من الخدمات، بما في ذلك من وإلى افريقيا.

تهديد بيئي

إلى جانب العوامل المرتبطة بقناة بنما والبحر الأسود، من الممكن أن تؤدي الاضطرابات في البحر الأحمر وقناة السويس، إلى تراجع المكاسب البيئية التي تحققت من خلال “التبخير البطيء”. إذ تلجأ السفن المعاد توجيهها إلى زيادة سرعتها لتغطية مسافات أطول. ويتضح هذا خصوصاً في سفن الحاويات، حيث تؤدي زيادة السرعة بنسبة 1 في المئة عادة إلى زيادة استهلاك الوقود بنسبة 2.2 في المئة. على سبيل المثال، يؤدي التسارع من 14 إلى 16 عقدة إلى زيادة استخدام الوقود بنسبة 31 في المئة لكل ميل.

وتؤدي المسافات الأطول الناتجة عن تغيير المسار من قناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح إلى زيادة انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي في رحلة الذهاب والاياب من سنغافورة إلى شمال أوروبا بنسبة 70 في المئة.

تكاليف باهظة

اختلفت تأثيرات ارتفاع أسعار الشحن عبر قطاعات السوق، بحيث تواجه شحن الحاويات والسلع الاستهلاكية والمصنعة الزيادات الأكثر حدة. وارتفعت أسعار شحن الحاويات على الطرق من آسيا والمحيط الهادئ إلى أوروبا بصورة حادة منذ تشرين الثاني 2023، بحيث بلغ الارتفاع الأسبوعي مستوى قياسياً قدره 500 دولار في الأسبوع الأخير من كانون الأول 2023. كما تضاعف متوسط الأسعار الفورية لشحن الحاويات من شنغهاي في أوائل شباط 2024، بزيادة قدرها 122 في المئة مقارنة بأوائل كانون الأول 2023. أما المعدلات من شنغهاي إلى أوروبا فقد ارتفعت بأكثر من ثلاث مرات، بحيث قفزت بنسبة 256 في المئة.

وعلى الرغم من أن الزيادات في أسعار الشحن كانت أعلى على الطرق التي تعبر قناة السويس، إلا أن تأثيرها امتد إلى مواقع بعيدة، مثل الطرق التي تربط آسيا بالساحل الغربي للولايات المتحدة، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 130 في المئة منذ أوائل تشرين الثاني. يوفر الساحل الغربي طريقاً بديلاً يستخدم السكك الحديدية للوصول إلى وجهات في وسط الولايات المتحدة وشرقها، بينما شهدت أسعار الشحن إلى الوجهات الأخرى ارتفاعات أقل.

مخاطر خفيّة

سجّلت أقساط مخاطر الحرب للسفن العابرة للبحر الأحمر ارتفاعاً كبيراً بعد توسيع اللجنة الحربية المشتركة لمناطقها المدرجة في المحيط الهندي وخليج عدن ومنطقة جنوب البحر الأحمر في 18 كانون الأول 2023.

ووفقاً لبعض المصادر، قفزت أسعار الحرب بصورة كبيرة في الأسابيع الأخيرة من العام 2023، بحيث أصبح العبور عبر البحر الأحمر في الوقت الحالي يجذب علاوة تزيد عن 0.3 في المئة من قيمة السفينة، أي ضعف ما كان يتم تحصيله في منتصف تشرين الأول وأعلى مما كان عليه قبل السابع من الشهر عينه. وبحلول أوائل شباط 2024، أشارت التقارير إلى ارتفاع أقساط التأمين من حوالي 0.7 في المئة إلى 1 في المئة من قيمة السفينة، من أقل من 0.1 في المئة. ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من اللاعبين في القطاع على استعداد لتوفير التغطية.

خريطة طريق

تُشكل الاضطرابات المتداخلة التي تُعاني منها طرق الشحن الدولية ونقاط الاختناق البحرية حالياً تحدياً استثنائياً للشحن والتجارة. وتُعدّ البلدان النامية أكثر عرضةً للاضطرابات في شبكات الشحن والتغييرات في أنماط التجارة، بحيث تُؤدّي هذه الاضطرابات إلى ارتفاع تكاليف الشحن، وتغيير طرق الاتصال، وتقليل إمكان الوصول إلى الأسواق.

وعلى الرغم من أن الاضطرابات الحالية في النقل البحري الدولي لا تزال دون مستوى الأزمة اللوجيستية التي نتجت عن جائحة كوفيد-19 في الفترة 2021-2022، الا أن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” يراقب الوضع عن كثب. وقد أظهرت الحرب في أوكرانيا بالفعل مدى تأثير المسافات الطويلة وارتفاع أسعار الشحن على أسعار المواد الغذائية.

وللمضي قدماً، دعت “الأونكتاد” الى مواصلة مراقبة التطورات الرئيسية في مجالي النقل والتجارة، مع التركيز على تأثيرها على البلدان النامية. وشدّدت على أهمية تقويمها، لا سيما تلك المتعلقة بجداول الشحن وموثوقية الخدمة، والتدابير الأمنية للسفن والموانئ، والتأخير في الشحنات والجداول الزمنية للتسليم، وزيادة أسعار الشحن وأقساط التأمين، وربط الشحن والجغرافيا العامة للتجارة.

شارك المقال