شبح البطالة يُخيّم على مستقبل المنطقة العربية

سوليكا علاء الدين

رجّحت منظمة العمل الدولية أن تبقى نسبة البطالة في المنطقة العربية مرتفعةً عند 9.8 في المئة في العام 2024، أي أعلى من مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19. كما توقّعت المنظمة أن ينمو الناتج المحلي الاجمالي في المنطقة بنسبة 3.5 في المئة في العام نفسه. التقرير الدولي الذي جاء تحت عنوان “التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024: تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال انتقال عادل”، أشار إلى أن نمو الناتج المحلي الاجمالي سيكون أسرع في دول مجلس التعاون الخليجي مقارنة بالدول غير الخليجية، حيث من المتوقع أن يصل إلى 3.7 في المئة مقابل 2.6 في المئة. ومع ذلك، فإن حالة عدم اليقين الناجمة عن الحرب في غزة والتصعيد المحتمل للصراع في جميع أنحاء المنطقة يتطلبان إعادة تقويم التوقعات والتنبؤات لتقديم صورة أوضح للمشهد الاقتصادي ومشهد التوظيف في المنطقة العربية.

تحديات متفاقمة

لعقود خلت، واجهت الدول العربية تحديات جيوسياسية وأمنية متشابكة، كانت لها عواقب عميقة على التنمية الاقتصادية وتطوير سوق العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية في المنطقة. وبين عامي 2011 و2019، أدّت الصراعات والاضطرابات السياسية، إلى جانب الظروف الاقتصادية العالمية، إلى تباين في مسارات النمو الاقتصادي في جميع أنحاء البلدان العربية. ففي العام 2020، تسببت جائحة كوفيد-19 في انكماش اقتصادي إقليمي، لكن سرعان ما تعافى الاقتصاد. وبحلول العام 2021، لم يزدد معدل نمو معظم الاقتصادات العربية فحسب، بل تجاوز مستويات ما قبل الجائحة.

وأوضح التقرير أن الدول العربية تواجه تحدياً مهماً يتمثل في معالجة نقص استغلال العمالة وخلق فرص عمل أكثر وأفضل لعدد السكان المتزايد في سن العمل، على الرغم من سعيها الى رفع معدلات النمو الاقتصادي. كما أظهر أن العديد من تحديات التشغيل في المنطقة تُعزى إلى عجز الاقتصادات عن خلق فرص عمل كافية ذات جودة عالية. وفي الدول العربية غير الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ترتبط تحديات البطالة ونقص استغلال العمالة بصورة أساسية بعدم الاستقرار السياسي والصراعات والأزمات الاقتصادية وضعف القطاع الخاص والضغوط الديموغرافية. ففي العام 2023، أظهرت بيانات منظمة العمل الدولية أن 17.5 مليون شخص في الدول العربية يرغبون في العمل ولكن لا يملكون وظائف، ما يُترجم إلى معدل فجوة في الوظائف يبلغ 23.7 في المئة.

وبالنظر إلى نتائج سوق عمل الشباب، أظهرت البيانات وجود عقبات توظيفية كبيرة تواجه الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. ففي العام 2023 أيضاً، بلغ معدل تشغيل الشباب 19.3 في المئة فقط، بينما وصل معدل تشغيل البالغين إلى 53.3 في المئة. وفي العام نفسه، تم تصنيف حوالي 11 مليون شاب، أكثر من ثلثهم من النساء، على أنهم غير عاملين في مجال التعليم والتدريب.

وتجدر الاشارة إلى أن تحديات التوظيف في منطقة الدول العربية لا تقتصر على كمية الوظائف المتاحة وحسب، بل تشمل أيضاً مخاوف جوهرية تتعلق بجودة الوظائف. فبحسب التقرير، لا تزال معدلات العمل غير الرسمي مرتفعة بصورة كبيرة، بحيث يعمل أكثر من نصف القوى العاملة في أشكال عمل غير منظمة وغير مستقرة، ما يحرمهم من إمكان الوصول إلى الحماية الاجتماعية والعديد من مزايا العمل الأخرى. وفي العام 2023، وجد نحو 7.1 ملايين عامل، أي ما يعادل 12.6 في المئة من إجمالي العمالة في المنطقة، أنفسهم عالقين في فخ فقر العمال، بحيث يكافح هؤلاء لتغطية نفقاتهم الأساسية على الرغم من حصولهم على وظائف. وعلاوة على ذلك، لا تزال العمالة الضعيفة تُشكل مصدر قلق رئيسي في المنطقة، حيث يفتقر جزء كبير من القوى العاملة إلى الأمن الوظيفي.

هجرة جامحة

وألقى التقرير الضوء على أزمة الهجرة في المنطقة العربية، والتي تُشكل تحدياً كبيراً لأسواق العمل. إذ تلعب الدول العربية دوراً مزدوجاً في سوق العمل العالمي. فبينما تُعد بعض الدول وجهة رئيسية للعمالة المهاجرة، فإن العديد من الدول تساهم بصورة كبيرة في القوى العاملة العالمية من خلال إرسال عدد كبير من العمال إلى الخارج. وتُعزى هذه الديناميكية بصورة أساسية إلى ارتفاع معدلات البطالة وضعف التوقعات الاقتصادية داخل بلدان المنشأ. وما يثير القلق خصوصاً الموجات الكبيرة من “هجرة الأدمغة”. وتُشكل هذه الظاهرة تحدياً كبيراً للتنمية الاقتصادية والابتكار في بلدان المنشأ كونها تستنزف رأس المال البشري القيّم والخبرة الضرورية لتعزيز النمو المستدام والتقدم.

وتواجه المنطقة العربية تحدياتٍ جمة، تعتبر الهجرة من أهمّها، سواء كانت قسرية أو طوعية، بحيث تضمّ المنطقة أعداداً كبيرة من اللاجئين والنازحين داخلياً. وتُعد سوريا أكبر مصدر للاجئين على مستوى العالم، حيث يبحث الملايين عن اللجوء في البلدان المجاورة وغير المجاورة مثل لبنان والأردن اللذان يعتبران من الدول المتلقية الرئيسية للاجئين، ويستضيفان أكبر عدد منهم بالنسبة الى عدد السكان في العالم. ويواجه اللاجئون، إلى جانب ظروفهم الانسانية الصعبة، صعوبات كبيرة في أسواق العمل في البلدان المضيفة، حيث يضطرون إلى التنافس مع السكان المحليين على الوظائف. في حين يضطر عدد كبير منهم إلى العمل في القطاع غير الرسمي، الذي غالباً ما يتسم بظروف عمل غير مواتية.

لبنان والانهيار

على الصعيد اللبناني، واجه الاقتصاد انكماشاً هائلاً بنسبة بلغت 40 في المئة بين عامي 2019 و 2022، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وفي الوقت نفسه، شهدت الليرة اللبنانية انخفاضاً سريعاً ومثيراً للقلق في قيمتها، وقد أدى هذا الانخفاض الكبير في قيمة العملة إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات. شهد لبنان تضخماً جامحاً، بحيث وصل معدل التضخم السنوي إلى 221 في المئة في العام 2023. أدى ذلك إلى تآكل القوة الشرائية للأفراد وزيادة مستويات الفقر بصورة كبيرة، ما جعل الحصول على الضروريات الأساسية والغذاء والرعاية الصحية والتعليم أمراً لا يُطاق بالنسبة الى الكثيرين.

وفي ما يتعلّق بسوق العمل، واجه القطاع الخاص تحدياتٍ في تعديل الأجور لمواكبة انخفاض قيمة العملة والتحول الجزئي إلى المدفوعات بالدولار. بينما واجه القطاع العام صعوباتٍ أكبر في تحقيق ذلك نظراً الى محدودية الموارد الحكومية. وعلى الرغم من الاعلان عن زيادات في رواتب موظفي القطاع العام، إلا أنها ظلت منخفضة بصورة استثنائية قياساً بالدولار، ما أدى إلى تدهور عام في خدمات القطاع العام، وفاقم من تعثر الاقتصاد اللبناني الذي يعاني أصلاً من أزماتٍ متعددة، بدءاً من وجود عدد كبير من اللاجئين السوريين، مروراً بتأثير جائحة كوفيد-19، ووصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت المدمر في آب 2020، ناهيك عن الآثار التضخمية للحرب الروسية-الأوكرانية.

ومنذ تشرين الأول 2023، ازدادت التهديدات على لبنان مع اندلاع الحرب في غزة، ما أثار مخاوف جدية من احتمال انهيارٍ كاملٍ للاقتصاد في حال توسع نطاق النزاع. وقد سجل لبنان معدل بطالة بلغ 29.6 في المئة في العام 2022، وهي زيادة صارخة من 11.4 في المئة في 2018-2019، قبل تفشي وباء كورونا. كما ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب اللبناني، بحيث بلغت ذروتها عند 47.8 في المئة في العام 2022. وعن الفجوة في الأجور بين المحافظات والمناطق، أشارت الأرقام إلى أنّ 15.6 في المئة و15.2 في المئة من موظفي بيروت وجبل لبنان على التوالي يعملون بأجور منخفضة. بينما تزيد هذه النسبة عن 30 في المئة في باقي المحافظات، خصوصاً في عكار، وهي من أفقر مناطق البلاد وأقلها نمواً.

ولم يسلم لبنان من هجرة الأدمغة والنزيف الحاد في الكفاءات، بحيث اضطر العديد من الشباب المتعلمين الى مغادرة البلاد بحثاً عن فرص عمل أفضل في الخارج. وفي العام 2022، كشف مسح متابعة القوى العاملة الذي أجرته إدارة الاحصاء المركزي (CAS) ومنظمة العمل الدولية أنّ فقدان الوظائف وصل إلى نسبة مذهلة بلغت 27.7 في المئة من الحجم الأولي لاجمالي العمالة في العام 2019. وأظهر المسح أيضاً أن نسبة العمالة إلى السكان في لبنان انخفضت إلى 30.6 في المئة عام 2022، بانخفاض يزيد عن 10 نقاط مئوية من معدل 43.3 في المئة في العام 2019.

التحول العادل

في ظل مواجهة الدول العربية لتحدٍ مزدوج يتمثل في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق المزيد من فرص العمل اللائق لقوتها العاملة المتنامية، أكّد تقرير منظمة العمل على ضرورة تكثيف الجهود لتنويع الاقتصاد لا سيما في البلدان المنتجة للنفط، التي تُعاني من تقلبات أسعاره، وعلى أهمية خلق فرص عمل جديدة في القطاعات الأكثر مرونة، خصوصاً في البلدان المتضررة من الصراعات وغياب الاستقرار.

وتواجه المنطقة أيضاً تحديات وفرصاً مرتبطة بالتغير البيئي والمناخي. وخلص التقرير إلى أن المنطقة يمكنها، من خلال تطبيق السياسات الخضراء المناسبة، زيادة ناتجها المحلي الاجمالي بمقدار 200 مليار دولار أميركي وخلق مليوني فرصة عمل إضافية بحلول العام 2050. ومع ذلك، يتطلب ذلك تنفيذ السياسات والتدابير المُناسبة لضمان تحول عادل يدعم جميع الأفراد المتضررين ولا يترك أحداً خلف الركب.

ولتحسين فرص العمل في المنطقة، اقترح التقرير مجموعة من التوصيات، تشمل تصميم وتنفيذ سياسات اقتصادية وقطاعية شاملة وداعمة للتشغيل، تعزيز عوامل تساعد على نمو الصناعات التحويلية والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، تحسين المهارات ونظام التعليم وتشجيع التعلم مدى الحياة. وتتضمّن التوصيات أيضاً دعم الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، تقليص الفجوة بين الجنسين، تحسين المعلومات المتاحة عن سوق العمل، معالجة مشكلة عدم المساواة وضمان حماية حقوق العمال. كما قدّم التقرير مجموعة من التدابير المحددة لتشجيع التحول العادل ودعم الفئات الضعيفة.

شارك المقال