التغير المناخي والأزمة الاقتصادية: عقبتان تهددان تعافي لبنان

سوليكا علاء الدين

تحت عنوان “المناخ والتنمية في لبنان”، أصدر البنك الدولي تقريراً مهماً سلّط فيه الضوء على مسار التعافي والتنمية في ظلّ تفاقم مخاطر تغير المناخ. التقرير قدّم تحليلاً دقيقاً لأبرز التحديات المناخية التي تُهدد لبنان، مُقترحاً خريطة طريق لتحقيق التوازن بين احتياجات التعافي على المدى القصير وتحقيق تنمية مستدامة على المدى الطويل مع التركيز على بناء قدرة لبنان على الصمود في مواجهة التغيرات المناخية.

بين المراوحة والتعافي

حدّد البنك الدولي في تقريره أربعة قطاعات رئيسية كركائز أساسية لتحقيق التعافي على نحو يراعي المناخ، وهي الطاقة والمياه والنقل والنفايات الصلبة. كما أعلن عن الاجراءات والاستثمارات اللازمة على مستوى السياسات في ظل سيناريوهين أساسيين للاقتصاد الكلي هما: سيناريو “المراوحة” وسيناريو “التعافي”. السيناريو الأول يفترض استمرار التأخير في تنفيذ الاصلاحات، وضيق المساحة المتاحة للإنفاق من المالية العامة، وعدم قدرة القطاع المصرفي على توفير التمويل للقطاع الخاص. في المقابل، يفترض السيناريو الثاني إعتماد إصلاحات على مستوى الاقتصاد الكلي والمالية العامة للتخفيف التدريجي من قيود التمويل وزيادة الحيز المالي المتاح للإنفاق.

فاتورة التقاعس

يُواجه لبنان تحديات جمة في سبيل التكيف مع تغيرات المناخ، ويُعدّ من الدول الأقل استعداداً على مستوى العالم، حيث يُصنف في المرتبة الثانية بعد اليمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمركز 161 من أصل 192 دولة عالمياً. وتُعزى هذه الصعوبات إلى محدودية قدرة البلاد على التكيف، والتي ازدادت سوءاً بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية التي أدّت إلى إضعاف رأس المال البشري والطبيعي والمادي بصورة حادة، وإلحاق أضرار جسيمة بالمالية العامة. ففي العام 2019، هوى لبنان في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في التاريخ الحديث، وفقاً للبنك الدولي. وانكمش الناتج المحلي الاجمالي بصورة هائلة، بنحو 40 في المئة منذ العام 2018، ما أدى إلى محو أكثر من 15 عاماً من النمو الاقتصادي.

تسببت هذه الأزمة في تدهور حاد في مستوى المعيشة، بحيث ارتفعت معدلات البطالة العامة ومعدلات البطالة بين الشباب بنحو 18 و24 نقطة مئوية على التوالي. كما أدت إلى تفاقم الفقر، وازدياد هجرة الأدمغة. ولم تقتصر تداعيات الأزمة على الجانب الاقتصادي فقط، بل امتدت لتشمل تدهوراً خطيراً في الخدمات الأساسية، ما أدى إلى تزايد التحديات البيئية. وبسبب الفاتورة الباهظة للتقاعس، باتت زيادة الاستثمار في قطاعات الطاقة والمياه والنقل والنفايات الصلبة ضرورة ملحة على المدى القصير للتخفيف من آثار تغير المناخ على مسار التنمية.

وبحسب التقرير، سيُؤدي تغيّر المناخ في لبنان إلى تصاعد مخاطر الظواهر المناخية المتطرفة وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة تقلب هطول الأمطار بحيث من المتوقع أن يرتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار 1.7 إلى 2.2 درجة مئوية. كما من المرجّح أن تؤثر الصدمات المناخية على إجمالي الناتج المحلي ورصيد المالية العامة، ما يساهم في زيادة نسبة الدين العام. وعموماً، توقع التقرير أن تُقلّص آثار تغير المناخ إمكانات النمو في لبنان بنسبة 2 في المئة سنوياً بحلول العام 2040، بالاضافة إلى عرقلة تقديم الخدمات، لا سيما في قطاع المياه والطاقة. ومن المتوقع أيضاً أن يُفاقم تغير المناخ في شح المياه بنسبة تصل إلى 9 في المئة بحلول العام 2040 (و50 في المئة خلال موسم الجفاف). وستُسفر هذه التحديات عن خسائر كبيرة في القطاعات الرئيسية المحركة للتعافي، خصوصاً الزراعة والسياحة، بحيث من المرجح أن تبلغ الخسائر السنوية 250 مليون دولار أميركي و75 مليون دولار أميركي على التوالي؛ الأمر الذي من شأنه أن يُهدد سبل كسب العيش لشريحة كبيرة من السكان، مع امكان فقدان الوظائف بنسبة 2 في المئة في قطاعات الزراعة والنقل والتجارة، وقد تصل هذه النسبة إلى 13 في المئة في قطاع أماكن الإقامة.

استثمارات مُستدامة

وأكّد تقرير “المناخ والتنمية في لبنان” أن الحد من الانبعاثات الكربونية في قطاع الكهرباء يُحقق فوائد اقتصادية وبيئية واجتماعية ثلاثية الأبعاد من خلال خفض التكاليف بنسبة 41 في المئة، خفض الانبعاثات بنسبة 43 في المئة، وتحسين نواتج الاقتصاد الكلي والمالية العامة عبر خفض كلفة استيراد الوقود والمحروقات. وتجدر الاشارة إلى أنّ توسيع استخدام الطاقة المتجددة لا يُساهم في خفض التكاليف وتلبية الطلب المتزايد على الطاقة وحسب، بل يُؤدي أيضاً إلى إبطاء توليد الانبعاثات وخلق المزيد من فرص العمل. وفي قطاع المياه، أظهر التقرير أهمية بناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ لتعزيز الأمن المائي من خلال زيادة سعة التخزين، وكفاءة استخدام المياه، واستعادة خدماتها التي تتسم بالمرونة والصمود في مواجهة الأزمات.

وبعيداً عن قطاعي المياه والكهرباء فإن استخدام وسائل النقل العام التي تعتمد على الكهرباء وتحسين إدارة النفايات الصلبة يُوفران فرصاً للنهوض بأجندتي التنمية والمناخ في آن واحد. كما أنّ اعتماد مبادئ الادارة المتكاملة للنفايات الصلبة، مثل الاقتصاد الدائري، وكفاءة الموارد، والتسلسل الهرمي للنفايات، لن يُسهم في معالجة تحديات القطاع الجوهرية وحسب، بل سيُقلل أيضاً من انبعاثات غازات الدفيئة، ويخفف من الآثار الوخيمة على البيئة والصحة العامة.

ويُعد بناء القدرة على التكيف وعلى الصمود في مواجهة الصدمات المناخية، خصوصاً في قطاعات المياه والزراعة والسياحة والنقل، حجر الأساس لدعم تعافي لبنان وحماية سبل العيش. لذلك، فإن زيادة قدرة لبنان على التكيف مع هذه الصدمات تتطلّب تعافياً سريعاً من الأزمة الحالية واستثمارات مُكثفة في تدابير التكيف، وتحديداً في قطاعات المياه والزراعة والسياحة والنقل. وفي هذا السياق، قام التقرير بتقويم أثر محفظة تمويل عاجل بقيمة 770 مليون دولار أميركي لتلبية بعض الاحتياجات الضرورية على المدى القصير (2024-2026) في القطاعات الأربعة المذكورة (الطاقة: 300 مليون دولار أميركي؛ المياه: 260 مليون دولار أميركي؛ النقل: 120 مليون دولار أميركي؛ المواد الصلبة النفايات: 90 مليون دولار أميركي) في إطار سيناريوهين “المراوحة” و”التعافي”. وقد أظهرت نتائج نمذجة حزم الاستثمارات ذات الأولوية على مستوى الاقتصاد الكلي أن هذه الاستثمارات لن تُؤدي إلى زيادة عبء الدين العام على المدى الطويل. كما يمكن أن يُساهم تخصيص جزء من التمويل للقطاع الخاص في تحسين ديناميكيات المالية العامة والديون، ما يُقلّل من نسبة مساهمة الحكومة في إجمالي الإنفاق الاستثماري.

وعلى المدى الأطول، أشارت التقديرات إلى أن لبنان سيحتاج إلى استثمارات بقيمة 7.6 مليارات دولار أميركي في الفترة من 2024 إلى 2030 في القطاعات الرئيسية الأربعة لتحقيق التوازن بين تحقيق التعافي، والعمل المناخي الفاعل من حيث التكلفة. ويحتاج قطاع الطاقة وحده، والذي يعتبر كثيف الاستخدام لرأس المال، إلى استثمارات بقيمة 4 مليارات دولار أميركي لتنويع مزيج توليد الكهرباء من مصادر للطاقة المتجددة أنظف وميسورة التكلفة والتحوُّل من الوقود السائل إلى الغاز الطبيعي. ومن بين الاستثمارات المهمة الأخرى، سيخصص أكثر من 1.8 مليار دولار لقطاع المياه، من أجل تعزيز الأمن المائي من خلال زيادة سعة تخزين المياه، ورفع كفاءة استخدامها، واستعادة خدمات المياه المرنة، وفقاً للاستراتيجية الوطنية المحدثة لقطاع المياه.

حتميّة الإصلاحات

في الوقت الذي شدّد التقرير على أهمية دعم القطاع الخاص في لبنان كونه محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي، أوصى بضرورة تنفيذ لبنان مروحة واسعة من الاصلاحات، وتحسين الحوكمة، وتطوير رأس المال البشري، وحماية رأس المال الطبيعي، واعتماد نهج يشمل المجتمع بأكمله في التصدي لتغيُّر المناخ، باعتبارها عوامل تمكين أساسية وركائز بالغة الأهمية لتحقيق التعافي الأخضر في البلاد.

ولا يُخفى على أحد أن تحقيق الانتعاش الاقتصادي في البلاد رهن بمعالجة الأزمة السياسية المستمرة وتنفيذ الاصلاحات القطاعية الرئيسية. إذ يُعدّ البدء الفوري بتنفيذ أجندة الاصلاح ولا سيّما في قطاع الطاقة، من سلّم أولويات الحكومة اللبنانية لضمان تعافي اقتصادي مستدام. كما أن الاستثمارات الاستراتيجية في البيانات، والبنية التحتية القادرة على التكيف، والتغييرات المؤسسية هي مفاتيح أساسية للإصلاحات في قطاع المياه، والتي ستساعد على تعزيز القدرة على الصمود والتخفيف من حدة التعرض للمخاطر المناخية التي يرزح لبنان تحت وطأتها.

شارك المقال